الفصل الرابع:
التَّقوى
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله ولْتَنْظُرْ نفسٌ ما قدَّمت لِغَدٍ واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون(18) ولا تكونوا كالَّذين نَسُوا الله فأنساهُمْ أنفسَهُمْ أولئك همُ الفاسقون(19)}
ومضات:
ـ التَّقوى تعني العفَّة عن المحارم والشهوات، ومحاذرة ارتكاب ما يغضب الله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وهي بمجملها الالتزام بشرع الله طاعةً ورغبةً.
ـ في الآيات نداء للمؤمنين لينهلوا من معين التَّقوى، وليحاسبوا أنفسهم على ما قدَّموه من أعمال لرحلتهم الأبدية.
ـ الإنسان اللاهي الغافل عن الله تعالى ضائع، وفاقد لمقوِّمات بناء الشخصية المؤمنة، وهو مفتقر للاستقرار النفسي، وبعيد عن أسس النجاح وفق ميزان الله.
في رحاب الآيات:
عندما ينوي المرء السفر إلى بلد ما، فإن أوَّل ما يفكر فيه هو كيفيَّة الحصول على العملة المتداولة في ذلك البلد، ومعرفة أسعارها، من أجل تيسير أموره وتمكينه من تحقيق قصده من هذا السفر. ويلفت الله تعالى نظر عباده إلى اليوم القريب، الَّذي تنطلق فيه رحلتهم الأبدية، تلك الرحلة ذات الاتجاه الواحد، والَّتي لا عودة بعدها، إنها الرحلة الَّتي يصل فيها المرء إلى مكانٍ؛ العملةُ المتداولة فيه هي أعماله فقط، تلك الأعمال الَّتي كان يقوم بها خلال مسيرة الحياة الجسدية. وفي هذه الرحلة يحقُّ له أن يحمل من حقائب السَّفر ما شاء، فلا قيود على الوزن، لأن محتويات هذه الحقائب هي محصِّلة أعماله، وزاده من الَّتقوى. التَّقوى الَّتي تجعل القلب، وهو يقطع رحلة الحياة يقظاً، حسَّاساً شاعراً بالله في كلِّ حالة، خائفاً متحرِّجاً، خجلاً من أن يطَّلع الله عليه في حالة يكرهها؛ وعين الله على كلِّ قلب، في كلِّ لحظة، لا تغفل ولا تنام، فمتى يأمن ألا يراه؟.
ويحذِّر الله عباده من أن يكونوا كأولئك الَّذين نسوه فأنساهم أنفسهم، وهي حالة عجيبة، ولكَّنها حقيقية، فالَّذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّه إلى أفق أعلى، وبلا هدف يرفعه عن السائمة الَّتي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى، هي نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدَّخر لها زاداً للحياة الأخروية الباقية، ولا ينظر فيما قدَّم لها للغد القريب من رصيد. وهذا كله يتطلَّب من المرء صحوة روحية وهو في عالم المادَّة، حيث ينسى نفسه في غمرة انشغاله بالدنيا لاهثاً وراءها، ومكثراً من تحصيل متاعها، ليعلم أن أعماله الخيِّرة والبنَّاءة تتحوَّل إلى حسابه الجاري في عالم الروح، وتُسجَّل له في رصيد الحسنات، وأن أعماله السيئة وذنوبه تُكْتَب في رصيد السيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد فاز الفوز العظيم ونجا من العذاب الأليم، وإلا فهو من النادمين، ولاتَ حين مندم فلا ينفع الندم.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وسَارِعُوا إلى مَغفِرةٍ من ربِّكُم وجَنَّةٍ عَرضُها السَّمَواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمُتَّقِينَ(133) الَّذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء والكَاظِمِينَ الغَيظَ والعافينَ عن النَّاسِ والله يُحِبُّ المُحسِنِينَ(134) والَّذين إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُم ذَكَرُوا الله فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم ومن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وهُم يَعلَمُونَ(135) أُولَئِكَ جَزاؤهُم مغفِرَةٌ من ربِّهِم وجَنَّاتٌ تَجري من تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فيها ونِعمَ أجرُ العامِلينَ(136)}
ومضات:
ـ تحمل هذه الآيات دعوة للمؤمنين ليدخلوا في ميدان التنافس في الخير وينالوا درجة المتَّقين، والجائزة الَّتي تُمنَح للفائزين هي جنان الخلد ونعيم لا يفنى.
ـ المتَّقون هم أولئك الَّذين نذروا ما يملكونه؛ سواء كان قليلاً أم كثيراً، ومهما كان مقدار حاجتهم إليه، لمساعدة المحوجين والبائسين، وهم أيضاً الَّذين يملكون أنفسهم عند الغضب، ويتجاوزون عن أخطاء الناس.
ـ المتَّقون المحسنون يملكون قلوباً طاهرة ومنوَّرة، فإذا شابها ذنب أو غفلة، سارَعُوا إلى الله بالإنابة والتوبة الصادقة، دون تباطؤ أو إصرار على التَّمادي في الذنب.
ـ الجائزة الكبرى الَّتي ينالها الفائزون في هذا التنافس الحارِّ في تقوى الله، هي نيل مغفرته تعالى ورضاه، وخلود في أحضان الجنان وفي ظلال عرش الرحمن.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين الواقعيَّة والمنطق السليم، والتَّقوى فيه عامل أساسي لشدِّ الهمم والعزائم، لأنها ترادف معنى الإخلاص، ولا تقاعس مع الإخلاص، ولا تسويف مع الحبِّ الصادق الَّذي أعطانا نبي الله موسى عليه السَّلام مثلاً رائعاً عنه، وصوَّره الله تعالى لنا بقوله: {وما أعجلَكَ عن قومِكَ ياموسى * قال هُمْ أُوْلاءِ على أثري وعَجِلْتُ إليك ربِّ لِتَرضى} (20 طه آية 83ـ84). فالمحبُّ العاشق لله يسارع إلى كلِّ عمل يوصله إلى رضاه تعالى ودخول جنَّته، تلك الجنَّة الرحبة الواسعة الَّتي أعدَّها الله لمن امتثل أوامره وترك نواهيه، وزكَّى نفسه ونمَّى عقله وأنار قلبه، وأمضى رحلة حياته في الإشادة والبناء وإسعاد الناس وخدمة الخلائق، إلى أن يصل إلى مرتبة المتقين الَّذين تصفهم الآيات بجملة من الصفات الجليلة.
فهم ينفقون في السَّعة والضيق كلٌّ حسب حاله، وهذا أَدَلُّ على التَّقوى، لأنَّ المال عزيز على النفس، يشقُّ عليها بذله في طرق الخير والمنافع العامَّة، وحبُّ الخير هو الَّذي يحرِّك في الإنسان دافع البذل، فإن لم يتوافر هذا الدافع بقرار ذاتي، فالدِّين ينمِّيه ويقوِّيه، لأنه جاء لتعديل الأمزجة المعتلَّة، وإصلاح النفوس المريضة.
وكذلك هم الَّذين يملكون زمام نفوسهم، فلا يظهرون غيظهم مع قدرتهم على الإيقاع بأعدائهم، ولا يُغلَب الغيظ إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبثقة من إشراقة التَّقوى، وبتلك القوَّة الروحية المنبعثة من التطلُّع إلى أفق أعلى وأسمى من أفق الذَّات وضروراتها. إن كظم الغيظ هو المرحلة الأولى فقط، وهو وحده لا يكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه دون زوال حقده، لذلك تمضي الآيات لتشير إلى المرحلة الثانية الكفيلة بانتزاع الأحقاد من صدور المؤمنين، وهي العفو والسماحة والتجاوز، والله سبحانه لم يدعُ الناس إلى السماحة فيما بينهم، إلا بعد أن أطلعهم على جانب من سماحته معهم ليتذوَّقوا ويتعلَّموا. فهو غفَّار الذنوب؛ بل إنه جعل المغفرة الحقيقية بيده وحده جلَّ وعلا في قوله: {ومن يَغفِرُ الذنوبَ إلاَّ الله}، وهو يحبُّ أولئك العافين عن الناس، وحبُّه لهم من شأنه أن يطلق في نفوسهم حبَّ الإحسان والخير، ويبعث في قلوبهم الرغبة في عمل ما يقرِّبهم منه. ولكن الإنسان لا يخلو من لحظات ضعف تنتابه، فيزِلُّ أو يقع في ذنب، وعندها لا ينبذه الإسلام ولا يطرده الله من رحمته، بل يفتح أمامه باب الأمل للتواصل من جديد مع الله تعالى ونيل مغفرته؛ إنْ هو استغفر لذنبه وتاب، وندم على فعلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «قال إبليس: يارب! وعزَّتك لاأزال أغوي بني آدم مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال تعالى: وعزَّتي وجلالي لاأزال أغفر لهم ما استغفروني» (رواه الإمام أحمد).
فالإسلام يدرك ضعف المخلوق البشري، الَّذي قد تدفعه نزواته وشهواته إلى مخالفة أمر الله، فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى احتقاره، بل يفترض فيه الخير مادامت شعلة إيمانه متوقِّدة لم تخمد، وطالما عرف أنه مخطئ وأن له ربّاً يغفر، فاستغفر وعاد عن خطئه، ولا يزال هذا العبد الضعيف المذنب بخير، مادام ممسكاً بالعروة الوثقى الَّتي تربطه بحضرة الله، سائراً في الدرب لم يقع في دائرة اليأس، ومهما تعثَّر فإنه سيصل في النهاية، مادامت الشعلة مضيئة تنير دربه، والأمل يشدُّ عزيمته، ومادام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره مُقِرّاً له بالعبوديَّة.
والإسلام لا يدعو بهذا إلى التهاون، ولا يمجِّد العاثر الهابط، إنما يتجاوز عن عثرة الضعيف ليستثير في النفس الرجاء، وليحضَّ على طلب المغفرة من الله، وأمَّا الَّذين يستهترون ويُصِرُّون على المعصية فقد ظلموا أنفسهم وتعدَّوا على حرمات الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» (رواه البيهقي والبزَّار)، فالله لم ينكر على الإنسان وقوعه في الذنب، ولكنَّه أنكر إصراره عليه. والإصرار هو امتلاك القوَّة الجسدية والعقلية عند تكرار ارتكاب الذنب مع معرفة أنه ذنب، ومع ذلك يكرِّر فعله من أجل مصلحة أو مكسب أو هوى. فالمرء قد يسرق لظرف ما ثمَّ يتوب، ويردُّ المال المسروق، لكنَّ في تكرار السرقة إصراراً عليها، وقد يكذب ثمَّ يتوب، لكنه إذا عاد إلى الكذب فهو مصرٌّ عليه. ولكن إذا تيقَّظ الضمير، وآبت النفس إلى جادَّة الصواب، وحاولت إصلاح الخطأ، كان ذلك توبة يفرح الله بها، ومدعاة لمغفرة الذنوب، جاء في الحديث القدسي فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجل: «أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني، ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقرَّبت إليه باعاً وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول» (متفق عليه).
والاستغفار هو طلب المرء المغفرة من الله على ما اقترفه من إثم أو ما قصَّر فيه من عمل، وهو يعجِّل بالخلاص إذا قصد به التوبة النصوح، قال صلى الله عليه وسلم : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلِّ ضيق مخرجاً، ومن كلِّ همٍّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» (رواه أبو داود).
والتوبة النصوح تستلزم النَّدم على ما مضى، والإقلاع عن الذنب، والعزم الأكيد على استئناف حياة صالحة فيما يُستَقبَلُ من الزمان، فإن كان ثمَّةَ حقوق للعباد وجب ردُّها إلى أصحابها ما أمكن، وهذه التوبة هي الَّتي يقبلها الله ويفرح بها، وحسب التائب شرفاً أن يقول الله في شأنه: {..إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطهِّرين} (2 البقرة آية 222).
والمتَّقون الَّذين وصفتهم الآيات بما تقدَّم، لهم ثواب عظيم وأمن من العقاب، وعفوٌ عما سلف من ذنوبهم، وجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبداً، فنعمت الجنَّة جزاءً لمن أطاع الله.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ عليها ملائكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يعصونَ الله ما أمرَهُمْ ويفعَلون ما يُؤمرون(6)}
ومضات:
ـ يأمر الله تعالى المؤمنين أن يوجِّهوا أزواجهم وأولادهم، ويعلِّموهم أسس الصلاح والحلال والحرام، وقاية لهم من نار رهيبة تشتعل بها أجسام الناس والحجارة.
في رحاب الآيات:
يوجِّهُ الله تعالى من خلال الآية نداء إنذار وإنقاذ إلى كلِّ مؤمن بل إلى كلِّ إنسان؛ أن يعمل صالحاً، ويأمر أهله بالطاعة، لتكون حجاباً له ولهم من نار جهنَّم، الَّتي وقودها الناس والحجارة، وهي الَّتي كان المشركون يعبدونها من دون الله، وهذا منتهى التحدِّي للإنسان الَّذي ظلم نفسه فعبد غير الله، والآن يُكَبُّ هو ومعبوده في النار، فهل يستطيع أحدهما أن ينقذ الآخر؟. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً} قال: (اعملوا بطاعة الله، واتَّقوا معاصيه، وَمُروا أهليكم بالذِّكر ينجيكم الله من النار). وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُم ناراً} قال: (أدِّبوا أهليكم). وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قوا أنفسكم...} فقالوا: يارسول الله كيف نقي أهلنا النار؟ قال: تأمرونهم بما يحبُّه الله وتنهونهم عما يكره الله».
ففي الآية إرشاد إلى أنه يجب على الرجل تعلُّم ما يجب من فرائض الدِّين وتعليمها لأهله، لاسيَّما أولاده، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي رواه ابن عمر رضي الله عنه : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيَّته» (متفق عليه). فالأبناء يُخلقون مزوَّدين بقوى فطرية تصلح أن توجَّه للخير، كما تصلح أن توجَّه للشر، وعلى الآباء أن يستغلوا هذه القوى ويوجِّهوها وجهة الخير، ويعوِّدوا أبناءهم العادات الحسنة، حتَّى ينشأ الطفل خيِّراً ينفع نفسه وينفع أمَّته.
ووقاية النفس والأهل من النار لا تكون إلا بالتعليم والتربية، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، وإرشادهم إلى ما فيه نفعهم وفلاحهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» (رواه ابن ماجه) وفي هذا الحديث دلالة على ما ينبغي أن يكون عليه الآباء من ملازمة أولادهم، ليكون تصرُّف الأبناء تحت نظر الآباء وإشرافهم، فإذا تصرَّف أحدهم أيَّ تصرُّف يحتاج إلى توجيه، كان ذلك التصرُّف موضع العناية والنظر. والإسلام لا يفرِّق بين الذكور والإناث في هذه الناحية، فلكلٍّ من الجنسين الحقُّ في التنشئة الصالحة، وتعلُّم العلم النافع، ودراسة المعارف الصحيحة، وأن تتاح له أسباب التأديب ووسائل التهذيب، لتكمل إنسانيته، ويستطيع النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له ابنة فأدَّبها فأحسن تأديبها، وربَّاها فأحسن تربيتها، وغذَّاها فأحسـن غذاءها، كانت لـه وقـاية من النار» (رواه الخمسة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). والمقصود بالتربية: إعداد الطفل بدنيّاً وعقليّاً وروحيّاً حتَّى يكون عضواً نافعاً لنفسه ولأمَّته، وذلك بتهيئته ليكون سليم الجسم قويَّ البنية، قادراً على مواجهة الصعاب الَّتي تعترضه، بعيداً عن الأمراض والعلل الَّتي تشلُّ حركته وتعطِّل نشاطه. وأن يتهيَّأ عقله ليكون سليم التفكير، قادراً على النظر والتأمُّل، يستطيع أن يفهم البنية الَّتي تحيط به، ويُحْسِنَ الحكم على الأشياء، ويمكنه أن ينتفع بتجاربه وتجارب الآخرين. وأمَّا إعداده الروحي فيتمُّ بأن يُهَيَّأ ليكون متيقِّظ العواطف والمشاعر، ينبسط للخير ويفرح به، ويحرص عليه، وينقبض عن الشرِّ ويضيق به، وينفر منه. وأمَّا الوسائل الَّتي يمكن للأب أن يهيِّئ ابنه من خلالها فتتلخَّص بما يلي:
1 ـ إبراز قيمة الفضائل وآثارها الفردية والاجتماعية، وإظهار مساوئ الرذائل وآثارها أمام الطفل بقدر ما يتسع له فهمه.
2 ـ أن يكون الآباء أنفسهم مثلاً صالحاً لأبنائهم؛ فإن من عادة الأطفال أن يتشبَّهوا بآبائهم ويحاكوهم في أقوالهم وأفعالهم، والقدوة الصالحة ما هي إلا عَرْض مجسَّم للفضائل. وإن الطفل الَّذي يرى والديه يهتمَّان بأداء الشعائر والبعد عما يُخِلُّ بتعاليم الدِّين، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، والأثرة، والبخل، وغير ذلك من الصفات الذميمة، لابدَّ وأن يتأثَّر تأثُّراً بالغاً بهما وبما يصدر عنهما.
3 ـ تلقين الطفل مبادئ الدِّين وتمرينه على العبادات، وتعويده على ممارسة فعل الخير، فإن ذلك يجعل منه نواة صالحة لمجتمع سليم راق.
4 ـ على الآباء أن تكون معاملتهم لأولادهم قائمة على أساس الملاطفة والرفق واللين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه أن يعاملوا أولادهم بالرفق واللين، ويضرب لهم المثل بما يمارسه هو بنفسه: «فكان يصلِّي صلى الله عليه وسلم يوماً إماماً، فارتحله الحسن؛ ابن بنته، فأطال السجود، فلمَّا فرغ قالت الصحابة: يارسول الله، أطلت السجود! فقال صلى الله عليه وسلم : إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» (أخرجه النسائي وأحمد والحاكم عن عبد الله بن شداد عن أبيه). «وقبَّل صلى الله عليه وسلم طفلاً من أبناء بناته، فقال رجل من الأعراب: أتقبِّلون أبناءكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحداً منهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (متفق عليه) أي ما الَّذي أستطيع أن أفعله معك وقد غاض نبع الرحمة في قلبك؟.
5 ـ ومن الضروري أن يحبِّب الآباء أبناءهم في اختيار الأصدقاء الأخيار ومزاملة أصحاب الخلق الفاضل، فإن الأطفال يحاكي بعضهم بعضاً، ويتشبَّه كلٌّ منهم بالآخر.
يُستَخلَصُ ممَّا تقدَّم أهميَّة دور المؤمن في الإشراف على تربية أولاده وتوجيه سلوكهم، لوقايتهم من شرور أنفسهم، بالتعاون مع الأمِّ المؤمنة الصالحة. فإن كانت عاطفة الأبوين تدفعهما ألاَّ يقفا مكتوفي الأيدي عند رؤية أولادهما على وشك الوقوع في نار الدنيا، فالأَوْلى بهما أن يحفظوهم من نار الآخرة، الَّتي سبيلها المعاصي والفسق والجهل والتمرُّد، وأن يزرعا فيهم حبَّ الله ورسوله، وحبَّ الخير لأنفسهم وللناس أجمعين. فالأبناء أمانة وضعها الله بين يدي الآباء، وهم مسؤولون عنها، فإن أحسنوا إليهم بحسن التربية، كانت لهم المثوبة، وأنقذوهم من سوء الخاتمة، وإن أساؤوا تربيتهم استوجبوا العقوبة ورموا بهم وبأنفسهم إلى التهلكة.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {ولو أنَّ أهلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوا لفتحنا عليهِمْ بركاتٍ من السَّماءِ والأرضِ ولكِنْ كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يَكْسِبُون(96)}
ومضات:
ـ الإيمان والتَّقوى هما مفتاحا الرزق والخير لأنهما يقودان إلى حسن التعامل وتوثيق الصلات بين الناس.
ـ هناك عوامل فعَّالة غير منظورة تؤثِّر على رزق الإنسان سلباً أو إيجاباً على الرغم من تعاطيه الأسباب للكسب، ولا تتوضح معالم هذه العوامل إلا لمن ربط فؤاده بموجد الأسباب والمسبَّبات، وأدرك أنه تعالى هو وحده القادر على بسط الرزق إنعاماً وتكريماً للمحسنين، أو حجبه وتضييقه جزاءً للغافلين والمكذِّبين.
في رحاب الآيات:
ينصح علماء الطبيعة والبيئة بالإكثار من التشجير، والمحافظة على الغابات من عبث الإنسان، ويؤكِّدون أهمية الأشجار في ترطيب أجواء الأرض واستقطاب الغيوم إليها؛ وهذا يدلُّ على وجود علاقة خاصَّة بين الشجر والغيوم. ويبدو من سياق الآية الكريمة أيضاً وجود علاقة بين تقوى الإنسان وورعه، وبين عوامل الطبيعة في الجو، وكأنَّ الأعمال الصالحة والاتجاه الروحي الصافي نحو حضرة الله، يستقطب الرزق من السماء والأرض، كما يستقطب الشجر ماء المطر ويمتصُّ غذاءه من الأرض.
إذن: هناك علاقة وثيقة خفيَّة بين الإيمان وتقوى الله من جهة، وبين الرزق الإلهي الوفير من جهة أخرى، ويمكن أن يدركها أولو البصيرة ويستشفَّها أصحاب اليقين، كما يمكن للإنسان المؤمن أن يتلمَّسها من خلال تجاربه اليومية. وميزة هذه العلاقة أنها تعطي الإنسان الأمل والتفاؤل، وتدفعه للدعاء والتضرُّع، وتزرع في قلبه الثقة بالله، والتسليم بأنه الرازق الحقيقي بعد تعاطي الأسباب الَّتي تثمر عادةً المسببات المرغوبة.
فالإيمان بالله قوَّة دافعة دافقة تُستَمَدُّ من قوَّة الله، وتعمل على تحقيق مشيئته في الأرض، بعمارتها ودفع الفساد والفتنة عنها. وتقوى الله يَقظةٌ واعية تصون الإنسان من التهوُّر والغرور، وتوجِّه الجهد البشري بعناية ليكمِّل رسالة البناء والإعمار. وهكذا يسير الإيمان والتَّقوى متناسقين متلازمين في طريق الخير، فيحدث بينهما لقاح خفيٌّ يومض بأنوار البركات الربَّانية، لينهمر العطاء الإلهي، وليتلاحم مع جود الأرض وكرمها، ويتفتَّح الخير في ذلك كله فيعمَّ البلاد والعباد.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {يابني آدمَ قد أنزلنا عليكُمْ لِباساً يُواري سَوْءَاتِكُمْ وريشاً ولباسُ التَّقوى ذلك خيرٌ ذلك من آياتِ الله لعلَّهم يذَّكَّرون(26)}
ومضات:
ـ على الإنسان الواعي أن يَحذَرَ الحملة الموجَّهة لتمزيق برقع حيائه، وتهديم ركائزه الأخلاقية، والَّتي تدعوه إلى التخلِّي عن الأخلاق والفضائل باسم التحرُّر والمدنية، وأن يحارب هذه الحملات الهادفة إلى تعطيل طاقاته والسيطرة عليه، ليكون أداة طيِّعة لتحقيق الفساد والإفساد.
ـ ربط الله سبحانه وتعالى بين الثياب والتَّقوى، لأن الأولى لباس الجسد والثانية لباس القلب والروح، وفي ذلك قال الشاعر:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التُّقى تقلَّب عُريانا وإن كان كاسياً
في رحاب الآيات:
من الأدعية المأثورة: (اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)، ولعل هناك رابطاً متيناً بين العورة والقلق الَّذي يروِّع الإنسان ويخرجه عن اتزانه وهدوء أعصابه وتفكيره. وهذا ما أدركه تجار الجنس وحاولوا أن يستغلُّوه، في محاولاتهم المستميتة، للتكسُّب من وراء تأجيج الغرائز الجنسية، بالأفلام الَّتي تتضمَّن مشاهد العري، وما أرفقوها من العنف الَّذي يولِّد القلق وتوتُّر الأعصاب، في أجواء تصيب النفس العفيفة بالغثيان. ذلك لأن الإنسان بشكل عام يخجل من كشف العورة، ويحاول جاهداً أن يسترها عن أعين الناس، ويرى في هتك الستر عنها شيئاً مخالفاً للآداب العامة. لذلك أتت الشريعة الإسلامية متوافقة مع المبادئ السليمة، محدِّدة ما يباح كشفه وما يجب ستره، وتناولت ما هو أشدُّ أهمية، وهو عيوب النفس وما يحاول الإنسان أن يخفيه منها عوضاً عن أن يعالجه بالتَّقوى ويتخلَّص منه.
وهذا الكلام يقودنا إلى التمييز بين نوعين من العورة: العورة الجسدية، والعورة النفسية. فالأولى تكرَّم الله علينا بسترها فخلق لنا لباساً يكسوها ويحجبها، ليحفظ لنا ماء وجوهنا ويرفعنا عن مرتبة البهائم، وجعل لنا آداباً لشكره عليها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً قال: «الحمد لله الَّذي كساني من الرِّياش ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في الناس» (رواه أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه ). أمَّا العورات النفسية فهي كلُّ عيب من العيوب الخُلقية أو النفسية، ومن حقِّ المسلم على أخيه المسلم أن يستر عورته، فمن سترها على أخيه ستر الله عليه، ومن بحث عنها وأفشاها كشف الله ستره وفضحه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة» (رواه مسلم).
إن اللباس الأجمل والأرقى الَّذي جعله الله لعباده المخلصين الَّذين حسُنت صلتهم بخالقهم، هو لباس التَّقوى الَّذي يؤهِّلهم لتلقِّي نور الله حيث يفيض على الجوارح، فَيُظهر في عيني صاحبه الصَّفاء والنَّقاء، وفي وجهه النور والبهاء، وفي معاملته الإخلاص والوفاء، وفي مشيته السكينة والوقار، وفي خلقه التسامي والنُّبْل، وفي غضبه الحلم والأناة، وفي لسانه الصدق والعدل، وفي سلوكه الصبر والسماح، وفي مشاعره التواضع والرحمة، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى صدره الشريف ويقول: «التَّقوى ههنا، التَّقوى ههنا» (رواه الترمذي ومسلم).
وأجمل ثوب تكسو به التَّقوى صاحبها هو ثوب الحياء، الَّذي جاء فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه) وكذلك ورد عن عمران بن حُصَيِن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحياء لا يأتي إلا بخير» (متفق عليه).
التَّقوى
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله ولْتَنْظُرْ نفسٌ ما قدَّمت لِغَدٍ واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون(18) ولا تكونوا كالَّذين نَسُوا الله فأنساهُمْ أنفسَهُمْ أولئك همُ الفاسقون(19)}
ومضات:
ـ التَّقوى تعني العفَّة عن المحارم والشهوات، ومحاذرة ارتكاب ما يغضب الله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وهي بمجملها الالتزام بشرع الله طاعةً ورغبةً.
ـ في الآيات نداء للمؤمنين لينهلوا من معين التَّقوى، وليحاسبوا أنفسهم على ما قدَّموه من أعمال لرحلتهم الأبدية.
ـ الإنسان اللاهي الغافل عن الله تعالى ضائع، وفاقد لمقوِّمات بناء الشخصية المؤمنة، وهو مفتقر للاستقرار النفسي، وبعيد عن أسس النجاح وفق ميزان الله.
في رحاب الآيات:
عندما ينوي المرء السفر إلى بلد ما، فإن أوَّل ما يفكر فيه هو كيفيَّة الحصول على العملة المتداولة في ذلك البلد، ومعرفة أسعارها، من أجل تيسير أموره وتمكينه من تحقيق قصده من هذا السفر. ويلفت الله تعالى نظر عباده إلى اليوم القريب، الَّذي تنطلق فيه رحلتهم الأبدية، تلك الرحلة ذات الاتجاه الواحد، والَّتي لا عودة بعدها، إنها الرحلة الَّتي يصل فيها المرء إلى مكانٍ؛ العملةُ المتداولة فيه هي أعماله فقط، تلك الأعمال الَّتي كان يقوم بها خلال مسيرة الحياة الجسدية. وفي هذه الرحلة يحقُّ له أن يحمل من حقائب السَّفر ما شاء، فلا قيود على الوزن، لأن محتويات هذه الحقائب هي محصِّلة أعماله، وزاده من الَّتقوى. التَّقوى الَّتي تجعل القلب، وهو يقطع رحلة الحياة يقظاً، حسَّاساً شاعراً بالله في كلِّ حالة، خائفاً متحرِّجاً، خجلاً من أن يطَّلع الله عليه في حالة يكرهها؛ وعين الله على كلِّ قلب، في كلِّ لحظة، لا تغفل ولا تنام، فمتى يأمن ألا يراه؟.
ويحذِّر الله عباده من أن يكونوا كأولئك الَّذين نسوه فأنساهم أنفسهم، وهي حالة عجيبة، ولكَّنها حقيقية، فالَّذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّه إلى أفق أعلى، وبلا هدف يرفعه عن السائمة الَّتي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى، هي نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدَّخر لها زاداً للحياة الأخروية الباقية، ولا ينظر فيما قدَّم لها للغد القريب من رصيد. وهذا كله يتطلَّب من المرء صحوة روحية وهو في عالم المادَّة، حيث ينسى نفسه في غمرة انشغاله بالدنيا لاهثاً وراءها، ومكثراً من تحصيل متاعها، ليعلم أن أعماله الخيِّرة والبنَّاءة تتحوَّل إلى حسابه الجاري في عالم الروح، وتُسجَّل له في رصيد الحسنات، وأن أعماله السيئة وذنوبه تُكْتَب في رصيد السيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد فاز الفوز العظيم ونجا من العذاب الأليم، وإلا فهو من النادمين، ولاتَ حين مندم فلا ينفع الندم.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وسَارِعُوا إلى مَغفِرةٍ من ربِّكُم وجَنَّةٍ عَرضُها السَّمَواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمُتَّقِينَ(133) الَّذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء والكَاظِمِينَ الغَيظَ والعافينَ عن النَّاسِ والله يُحِبُّ المُحسِنِينَ(134) والَّذين إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُم ذَكَرُوا الله فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم ومن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وهُم يَعلَمُونَ(135) أُولَئِكَ جَزاؤهُم مغفِرَةٌ من ربِّهِم وجَنَّاتٌ تَجري من تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فيها ونِعمَ أجرُ العامِلينَ(136)}
ومضات:
ـ تحمل هذه الآيات دعوة للمؤمنين ليدخلوا في ميدان التنافس في الخير وينالوا درجة المتَّقين، والجائزة الَّتي تُمنَح للفائزين هي جنان الخلد ونعيم لا يفنى.
ـ المتَّقون هم أولئك الَّذين نذروا ما يملكونه؛ سواء كان قليلاً أم كثيراً، ومهما كان مقدار حاجتهم إليه، لمساعدة المحوجين والبائسين، وهم أيضاً الَّذين يملكون أنفسهم عند الغضب، ويتجاوزون عن أخطاء الناس.
ـ المتَّقون المحسنون يملكون قلوباً طاهرة ومنوَّرة، فإذا شابها ذنب أو غفلة، سارَعُوا إلى الله بالإنابة والتوبة الصادقة، دون تباطؤ أو إصرار على التَّمادي في الذنب.
ـ الجائزة الكبرى الَّتي ينالها الفائزون في هذا التنافس الحارِّ في تقوى الله، هي نيل مغفرته تعالى ورضاه، وخلود في أحضان الجنان وفي ظلال عرش الرحمن.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين الواقعيَّة والمنطق السليم، والتَّقوى فيه عامل أساسي لشدِّ الهمم والعزائم، لأنها ترادف معنى الإخلاص، ولا تقاعس مع الإخلاص، ولا تسويف مع الحبِّ الصادق الَّذي أعطانا نبي الله موسى عليه السَّلام مثلاً رائعاً عنه، وصوَّره الله تعالى لنا بقوله: {وما أعجلَكَ عن قومِكَ ياموسى * قال هُمْ أُوْلاءِ على أثري وعَجِلْتُ إليك ربِّ لِتَرضى} (20 طه آية 83ـ84). فالمحبُّ العاشق لله يسارع إلى كلِّ عمل يوصله إلى رضاه تعالى ودخول جنَّته، تلك الجنَّة الرحبة الواسعة الَّتي أعدَّها الله لمن امتثل أوامره وترك نواهيه، وزكَّى نفسه ونمَّى عقله وأنار قلبه، وأمضى رحلة حياته في الإشادة والبناء وإسعاد الناس وخدمة الخلائق، إلى أن يصل إلى مرتبة المتقين الَّذين تصفهم الآيات بجملة من الصفات الجليلة.
فهم ينفقون في السَّعة والضيق كلٌّ حسب حاله، وهذا أَدَلُّ على التَّقوى، لأنَّ المال عزيز على النفس، يشقُّ عليها بذله في طرق الخير والمنافع العامَّة، وحبُّ الخير هو الَّذي يحرِّك في الإنسان دافع البذل، فإن لم يتوافر هذا الدافع بقرار ذاتي، فالدِّين ينمِّيه ويقوِّيه، لأنه جاء لتعديل الأمزجة المعتلَّة، وإصلاح النفوس المريضة.
وكذلك هم الَّذين يملكون زمام نفوسهم، فلا يظهرون غيظهم مع قدرتهم على الإيقاع بأعدائهم، ولا يُغلَب الغيظ إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبثقة من إشراقة التَّقوى، وبتلك القوَّة الروحية المنبعثة من التطلُّع إلى أفق أعلى وأسمى من أفق الذَّات وضروراتها. إن كظم الغيظ هو المرحلة الأولى فقط، وهو وحده لا يكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه دون زوال حقده، لذلك تمضي الآيات لتشير إلى المرحلة الثانية الكفيلة بانتزاع الأحقاد من صدور المؤمنين، وهي العفو والسماحة والتجاوز، والله سبحانه لم يدعُ الناس إلى السماحة فيما بينهم، إلا بعد أن أطلعهم على جانب من سماحته معهم ليتذوَّقوا ويتعلَّموا. فهو غفَّار الذنوب؛ بل إنه جعل المغفرة الحقيقية بيده وحده جلَّ وعلا في قوله: {ومن يَغفِرُ الذنوبَ إلاَّ الله}، وهو يحبُّ أولئك العافين عن الناس، وحبُّه لهم من شأنه أن يطلق في نفوسهم حبَّ الإحسان والخير، ويبعث في قلوبهم الرغبة في عمل ما يقرِّبهم منه. ولكن الإنسان لا يخلو من لحظات ضعف تنتابه، فيزِلُّ أو يقع في ذنب، وعندها لا ينبذه الإسلام ولا يطرده الله من رحمته، بل يفتح أمامه باب الأمل للتواصل من جديد مع الله تعالى ونيل مغفرته؛ إنْ هو استغفر لذنبه وتاب، وندم على فعلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «قال إبليس: يارب! وعزَّتك لاأزال أغوي بني آدم مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال تعالى: وعزَّتي وجلالي لاأزال أغفر لهم ما استغفروني» (رواه الإمام أحمد).
فالإسلام يدرك ضعف المخلوق البشري، الَّذي قد تدفعه نزواته وشهواته إلى مخالفة أمر الله، فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى احتقاره، بل يفترض فيه الخير مادامت شعلة إيمانه متوقِّدة لم تخمد، وطالما عرف أنه مخطئ وأن له ربّاً يغفر، فاستغفر وعاد عن خطئه، ولا يزال هذا العبد الضعيف المذنب بخير، مادام ممسكاً بالعروة الوثقى الَّتي تربطه بحضرة الله، سائراً في الدرب لم يقع في دائرة اليأس، ومهما تعثَّر فإنه سيصل في النهاية، مادامت الشعلة مضيئة تنير دربه، والأمل يشدُّ عزيمته، ومادام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره مُقِرّاً له بالعبوديَّة.
والإسلام لا يدعو بهذا إلى التهاون، ولا يمجِّد العاثر الهابط، إنما يتجاوز عن عثرة الضعيف ليستثير في النفس الرجاء، وليحضَّ على طلب المغفرة من الله، وأمَّا الَّذين يستهترون ويُصِرُّون على المعصية فقد ظلموا أنفسهم وتعدَّوا على حرمات الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» (رواه البيهقي والبزَّار)، فالله لم ينكر على الإنسان وقوعه في الذنب، ولكنَّه أنكر إصراره عليه. والإصرار هو امتلاك القوَّة الجسدية والعقلية عند تكرار ارتكاب الذنب مع معرفة أنه ذنب، ومع ذلك يكرِّر فعله من أجل مصلحة أو مكسب أو هوى. فالمرء قد يسرق لظرف ما ثمَّ يتوب، ويردُّ المال المسروق، لكنَّ في تكرار السرقة إصراراً عليها، وقد يكذب ثمَّ يتوب، لكنه إذا عاد إلى الكذب فهو مصرٌّ عليه. ولكن إذا تيقَّظ الضمير، وآبت النفس إلى جادَّة الصواب، وحاولت إصلاح الخطأ، كان ذلك توبة يفرح الله بها، ومدعاة لمغفرة الذنوب، جاء في الحديث القدسي فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجل: «أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني، ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقرَّبت إليه باعاً وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول» (متفق عليه).
والاستغفار هو طلب المرء المغفرة من الله على ما اقترفه من إثم أو ما قصَّر فيه من عمل، وهو يعجِّل بالخلاص إذا قصد به التوبة النصوح، قال صلى الله عليه وسلم : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلِّ ضيق مخرجاً، ومن كلِّ همٍّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» (رواه أبو داود).
والتوبة النصوح تستلزم النَّدم على ما مضى، والإقلاع عن الذنب، والعزم الأكيد على استئناف حياة صالحة فيما يُستَقبَلُ من الزمان، فإن كان ثمَّةَ حقوق للعباد وجب ردُّها إلى أصحابها ما أمكن، وهذه التوبة هي الَّتي يقبلها الله ويفرح بها، وحسب التائب شرفاً أن يقول الله في شأنه: {..إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطهِّرين} (2 البقرة آية 222).
والمتَّقون الَّذين وصفتهم الآيات بما تقدَّم، لهم ثواب عظيم وأمن من العقاب، وعفوٌ عما سلف من ذنوبهم، وجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبداً، فنعمت الجنَّة جزاءً لمن أطاع الله.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ عليها ملائكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يعصونَ الله ما أمرَهُمْ ويفعَلون ما يُؤمرون(6)}
ومضات:
ـ يأمر الله تعالى المؤمنين أن يوجِّهوا أزواجهم وأولادهم، ويعلِّموهم أسس الصلاح والحلال والحرام، وقاية لهم من نار رهيبة تشتعل بها أجسام الناس والحجارة.
في رحاب الآيات:
يوجِّهُ الله تعالى من خلال الآية نداء إنذار وإنقاذ إلى كلِّ مؤمن بل إلى كلِّ إنسان؛ أن يعمل صالحاً، ويأمر أهله بالطاعة، لتكون حجاباً له ولهم من نار جهنَّم، الَّتي وقودها الناس والحجارة، وهي الَّتي كان المشركون يعبدونها من دون الله، وهذا منتهى التحدِّي للإنسان الَّذي ظلم نفسه فعبد غير الله، والآن يُكَبُّ هو ومعبوده في النار، فهل يستطيع أحدهما أن ينقذ الآخر؟. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً} قال: (اعملوا بطاعة الله، واتَّقوا معاصيه، وَمُروا أهليكم بالذِّكر ينجيكم الله من النار). وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُم ناراً} قال: (أدِّبوا أهليكم). وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قوا أنفسكم...} فقالوا: يارسول الله كيف نقي أهلنا النار؟ قال: تأمرونهم بما يحبُّه الله وتنهونهم عما يكره الله».
ففي الآية إرشاد إلى أنه يجب على الرجل تعلُّم ما يجب من فرائض الدِّين وتعليمها لأهله، لاسيَّما أولاده، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي رواه ابن عمر رضي الله عنه : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيَّته» (متفق عليه). فالأبناء يُخلقون مزوَّدين بقوى فطرية تصلح أن توجَّه للخير، كما تصلح أن توجَّه للشر، وعلى الآباء أن يستغلوا هذه القوى ويوجِّهوها وجهة الخير، ويعوِّدوا أبناءهم العادات الحسنة، حتَّى ينشأ الطفل خيِّراً ينفع نفسه وينفع أمَّته.
ووقاية النفس والأهل من النار لا تكون إلا بالتعليم والتربية، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، وإرشادهم إلى ما فيه نفعهم وفلاحهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» (رواه ابن ماجه) وفي هذا الحديث دلالة على ما ينبغي أن يكون عليه الآباء من ملازمة أولادهم، ليكون تصرُّف الأبناء تحت نظر الآباء وإشرافهم، فإذا تصرَّف أحدهم أيَّ تصرُّف يحتاج إلى توجيه، كان ذلك التصرُّف موضع العناية والنظر. والإسلام لا يفرِّق بين الذكور والإناث في هذه الناحية، فلكلٍّ من الجنسين الحقُّ في التنشئة الصالحة، وتعلُّم العلم النافع، ودراسة المعارف الصحيحة، وأن تتاح له أسباب التأديب ووسائل التهذيب، لتكمل إنسانيته، ويستطيع النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له ابنة فأدَّبها فأحسن تأديبها، وربَّاها فأحسن تربيتها، وغذَّاها فأحسـن غذاءها، كانت لـه وقـاية من النار» (رواه الخمسة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). والمقصود بالتربية: إعداد الطفل بدنيّاً وعقليّاً وروحيّاً حتَّى يكون عضواً نافعاً لنفسه ولأمَّته، وذلك بتهيئته ليكون سليم الجسم قويَّ البنية، قادراً على مواجهة الصعاب الَّتي تعترضه، بعيداً عن الأمراض والعلل الَّتي تشلُّ حركته وتعطِّل نشاطه. وأن يتهيَّأ عقله ليكون سليم التفكير، قادراً على النظر والتأمُّل، يستطيع أن يفهم البنية الَّتي تحيط به، ويُحْسِنَ الحكم على الأشياء، ويمكنه أن ينتفع بتجاربه وتجارب الآخرين. وأمَّا إعداده الروحي فيتمُّ بأن يُهَيَّأ ليكون متيقِّظ العواطف والمشاعر، ينبسط للخير ويفرح به، ويحرص عليه، وينقبض عن الشرِّ ويضيق به، وينفر منه. وأمَّا الوسائل الَّتي يمكن للأب أن يهيِّئ ابنه من خلالها فتتلخَّص بما يلي:
1 ـ إبراز قيمة الفضائل وآثارها الفردية والاجتماعية، وإظهار مساوئ الرذائل وآثارها أمام الطفل بقدر ما يتسع له فهمه.
2 ـ أن يكون الآباء أنفسهم مثلاً صالحاً لأبنائهم؛ فإن من عادة الأطفال أن يتشبَّهوا بآبائهم ويحاكوهم في أقوالهم وأفعالهم، والقدوة الصالحة ما هي إلا عَرْض مجسَّم للفضائل. وإن الطفل الَّذي يرى والديه يهتمَّان بأداء الشعائر والبعد عما يُخِلُّ بتعاليم الدِّين، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، والأثرة، والبخل، وغير ذلك من الصفات الذميمة، لابدَّ وأن يتأثَّر تأثُّراً بالغاً بهما وبما يصدر عنهما.
3 ـ تلقين الطفل مبادئ الدِّين وتمرينه على العبادات، وتعويده على ممارسة فعل الخير، فإن ذلك يجعل منه نواة صالحة لمجتمع سليم راق.
4 ـ على الآباء أن تكون معاملتهم لأولادهم قائمة على أساس الملاطفة والرفق واللين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه أن يعاملوا أولادهم بالرفق واللين، ويضرب لهم المثل بما يمارسه هو بنفسه: «فكان يصلِّي صلى الله عليه وسلم يوماً إماماً، فارتحله الحسن؛ ابن بنته، فأطال السجود، فلمَّا فرغ قالت الصحابة: يارسول الله، أطلت السجود! فقال صلى الله عليه وسلم : إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» (أخرجه النسائي وأحمد والحاكم عن عبد الله بن شداد عن أبيه). «وقبَّل صلى الله عليه وسلم طفلاً من أبناء بناته، فقال رجل من الأعراب: أتقبِّلون أبناءكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحداً منهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (متفق عليه) أي ما الَّذي أستطيع أن أفعله معك وقد غاض نبع الرحمة في قلبك؟.
5 ـ ومن الضروري أن يحبِّب الآباء أبناءهم في اختيار الأصدقاء الأخيار ومزاملة أصحاب الخلق الفاضل، فإن الأطفال يحاكي بعضهم بعضاً، ويتشبَّه كلٌّ منهم بالآخر.
يُستَخلَصُ ممَّا تقدَّم أهميَّة دور المؤمن في الإشراف على تربية أولاده وتوجيه سلوكهم، لوقايتهم من شرور أنفسهم، بالتعاون مع الأمِّ المؤمنة الصالحة. فإن كانت عاطفة الأبوين تدفعهما ألاَّ يقفا مكتوفي الأيدي عند رؤية أولادهما على وشك الوقوع في نار الدنيا، فالأَوْلى بهما أن يحفظوهم من نار الآخرة، الَّتي سبيلها المعاصي والفسق والجهل والتمرُّد، وأن يزرعا فيهم حبَّ الله ورسوله، وحبَّ الخير لأنفسهم وللناس أجمعين. فالأبناء أمانة وضعها الله بين يدي الآباء، وهم مسؤولون عنها، فإن أحسنوا إليهم بحسن التربية، كانت لهم المثوبة، وأنقذوهم من سوء الخاتمة، وإن أساؤوا تربيتهم استوجبوا العقوبة ورموا بهم وبأنفسهم إلى التهلكة.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {ولو أنَّ أهلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوا لفتحنا عليهِمْ بركاتٍ من السَّماءِ والأرضِ ولكِنْ كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يَكْسِبُون(96)}
ومضات:
ـ الإيمان والتَّقوى هما مفتاحا الرزق والخير لأنهما يقودان إلى حسن التعامل وتوثيق الصلات بين الناس.
ـ هناك عوامل فعَّالة غير منظورة تؤثِّر على رزق الإنسان سلباً أو إيجاباً على الرغم من تعاطيه الأسباب للكسب، ولا تتوضح معالم هذه العوامل إلا لمن ربط فؤاده بموجد الأسباب والمسبَّبات، وأدرك أنه تعالى هو وحده القادر على بسط الرزق إنعاماً وتكريماً للمحسنين، أو حجبه وتضييقه جزاءً للغافلين والمكذِّبين.
في رحاب الآيات:
ينصح علماء الطبيعة والبيئة بالإكثار من التشجير، والمحافظة على الغابات من عبث الإنسان، ويؤكِّدون أهمية الأشجار في ترطيب أجواء الأرض واستقطاب الغيوم إليها؛ وهذا يدلُّ على وجود علاقة خاصَّة بين الشجر والغيوم. ويبدو من سياق الآية الكريمة أيضاً وجود علاقة بين تقوى الإنسان وورعه، وبين عوامل الطبيعة في الجو، وكأنَّ الأعمال الصالحة والاتجاه الروحي الصافي نحو حضرة الله، يستقطب الرزق من السماء والأرض، كما يستقطب الشجر ماء المطر ويمتصُّ غذاءه من الأرض.
إذن: هناك علاقة وثيقة خفيَّة بين الإيمان وتقوى الله من جهة، وبين الرزق الإلهي الوفير من جهة أخرى، ويمكن أن يدركها أولو البصيرة ويستشفَّها أصحاب اليقين، كما يمكن للإنسان المؤمن أن يتلمَّسها من خلال تجاربه اليومية. وميزة هذه العلاقة أنها تعطي الإنسان الأمل والتفاؤل، وتدفعه للدعاء والتضرُّع، وتزرع في قلبه الثقة بالله، والتسليم بأنه الرازق الحقيقي بعد تعاطي الأسباب الَّتي تثمر عادةً المسببات المرغوبة.
فالإيمان بالله قوَّة دافعة دافقة تُستَمَدُّ من قوَّة الله، وتعمل على تحقيق مشيئته في الأرض، بعمارتها ودفع الفساد والفتنة عنها. وتقوى الله يَقظةٌ واعية تصون الإنسان من التهوُّر والغرور، وتوجِّه الجهد البشري بعناية ليكمِّل رسالة البناء والإعمار. وهكذا يسير الإيمان والتَّقوى متناسقين متلازمين في طريق الخير، فيحدث بينهما لقاح خفيٌّ يومض بأنوار البركات الربَّانية، لينهمر العطاء الإلهي، وليتلاحم مع جود الأرض وكرمها، ويتفتَّح الخير في ذلك كله فيعمَّ البلاد والعباد.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {يابني آدمَ قد أنزلنا عليكُمْ لِباساً يُواري سَوْءَاتِكُمْ وريشاً ولباسُ التَّقوى ذلك خيرٌ ذلك من آياتِ الله لعلَّهم يذَّكَّرون(26)}
ومضات:
ـ على الإنسان الواعي أن يَحذَرَ الحملة الموجَّهة لتمزيق برقع حيائه، وتهديم ركائزه الأخلاقية، والَّتي تدعوه إلى التخلِّي عن الأخلاق والفضائل باسم التحرُّر والمدنية، وأن يحارب هذه الحملات الهادفة إلى تعطيل طاقاته والسيطرة عليه، ليكون أداة طيِّعة لتحقيق الفساد والإفساد.
ـ ربط الله سبحانه وتعالى بين الثياب والتَّقوى، لأن الأولى لباس الجسد والثانية لباس القلب والروح، وفي ذلك قال الشاعر:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التُّقى تقلَّب عُريانا وإن كان كاسياً
في رحاب الآيات:
من الأدعية المأثورة: (اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)، ولعل هناك رابطاً متيناً بين العورة والقلق الَّذي يروِّع الإنسان ويخرجه عن اتزانه وهدوء أعصابه وتفكيره. وهذا ما أدركه تجار الجنس وحاولوا أن يستغلُّوه، في محاولاتهم المستميتة، للتكسُّب من وراء تأجيج الغرائز الجنسية، بالأفلام الَّتي تتضمَّن مشاهد العري، وما أرفقوها من العنف الَّذي يولِّد القلق وتوتُّر الأعصاب، في أجواء تصيب النفس العفيفة بالغثيان. ذلك لأن الإنسان بشكل عام يخجل من كشف العورة، ويحاول جاهداً أن يسترها عن أعين الناس، ويرى في هتك الستر عنها شيئاً مخالفاً للآداب العامة. لذلك أتت الشريعة الإسلامية متوافقة مع المبادئ السليمة، محدِّدة ما يباح كشفه وما يجب ستره، وتناولت ما هو أشدُّ أهمية، وهو عيوب النفس وما يحاول الإنسان أن يخفيه منها عوضاً عن أن يعالجه بالتَّقوى ويتخلَّص منه.
وهذا الكلام يقودنا إلى التمييز بين نوعين من العورة: العورة الجسدية، والعورة النفسية. فالأولى تكرَّم الله علينا بسترها فخلق لنا لباساً يكسوها ويحجبها، ليحفظ لنا ماء وجوهنا ويرفعنا عن مرتبة البهائم، وجعل لنا آداباً لشكره عليها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً قال: «الحمد لله الَّذي كساني من الرِّياش ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في الناس» (رواه أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه ). أمَّا العورات النفسية فهي كلُّ عيب من العيوب الخُلقية أو النفسية، ومن حقِّ المسلم على أخيه المسلم أن يستر عورته، فمن سترها على أخيه ستر الله عليه، ومن بحث عنها وأفشاها كشف الله ستره وفضحه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة» (رواه مسلم).
إن اللباس الأجمل والأرقى الَّذي جعله الله لعباده المخلصين الَّذين حسُنت صلتهم بخالقهم، هو لباس التَّقوى الَّذي يؤهِّلهم لتلقِّي نور الله حيث يفيض على الجوارح، فَيُظهر في عيني صاحبه الصَّفاء والنَّقاء، وفي وجهه النور والبهاء، وفي معاملته الإخلاص والوفاء، وفي مشيته السكينة والوقار، وفي خلقه التسامي والنُّبْل، وفي غضبه الحلم والأناة، وفي لسانه الصدق والعدل، وفي سلوكه الصبر والسماح، وفي مشاعره التواضع والرحمة، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى صدره الشريف ويقول: «التَّقوى ههنا، التَّقوى ههنا» (رواه الترمذي ومسلم).
وأجمل ثوب تكسو به التَّقوى صاحبها هو ثوب الحياء، الَّذي جاء فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه) وكذلك ورد عن عمران بن حُصَيِن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحياء لا يأتي إلا بخير» (متفق عليه).