الفصل الثالث:
الاستقامة والوفاء بعهد الله
سورة فُصِّلَتْ(41)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تَتَنزَّلُ عليهمُ الملائكَةُ ألاَّ تَخَافوا ولا تَحزنوا وأبشِرُوا بالجنَّة الَّتي كُنتم تُوعدون(30) نحن أولياؤُكُم في الحياة الدُّنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتهي أنفُسُكُمْ ولكم فيها ما تَدَّعُون(31) نُزُلاً من غفورٍ رحيم(32) ومن أحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمِلَ صالحاً وقال إنَّني من المسلمين(33)}
سورة الأحقاف(46)
وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13) أولئك أصحابُ الجنَّةِ خالدينَ فيها جَزَاءً بما كانوا يعملون(14)}
سورة الجن(72)
وقال أيضاً: {وأَنْ لوِ استقاموا على الطَّريقَةِ لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً(16)}
ومضات:
ـ الاستقامة تعني الالتزام الكامل بالتوجُّه نحو الله وبالله وفي سبيل الله.
ـ إن من يُخلص العبوديَّة لله تعالى ويسير ضمن تعاليمه، يحصل على الدعم الروحي في رحلته الحياتيَّة، حيث تُظلُّه العناية الربانيَّة، وتُسخَّر له الملائكة لتيسير أموره وحفظه، وكذلك في رحلة الآخرة بدءاً من حفرة القبر، وحتَّى دخول جنان الخلد بإذن الله عزَّ وجل؛ حيث فيها ما تقرُّ به الأعين وتطرب له القلوب.
ـ يتمايز الناس في الدنيا بأنسابهم وأحسابهم وأموالهم، أمَّا عند الله فإن أفضل الناس من حسن كلامه وصلح عمله، وطاب سلوكه وممشاه، وانتسب إلى مدرسة الإسلام بصدق وجدارة.
في رحاب الآيات:
أن يقول المرء (ربِّيَ الله) فهذا سهل على اللسان، ويكاد أهل الأرض يجمعون على ترداد هذا القول، ولكن قليلاً منهم من يشعر بالمسؤوليات والالتزامات الَّتي تترتب على الاعتراف بوجوده تعالى، وبكونه خالقهم ومقدِّر أمورهم، ويدركون أنَّ عليهم أن ينظِّموا برنامـج حياتهم وفق مخططاته عزَّ وجل. وسبيلهم إلى ذلك يتلخَّص في كلمة واحدة حيث يُتْبِعُ أحدهم القول بالعمل؛ إنها الاستقامة.
فالاستقامة هي المسار الصحيح للإنسان في حياته العملية فيما يُرضي الله عنه تعبديّاً، وبما يُسْعِد مجتمعه فكريّاً أو ماديّاً أو جهداً عمليّاً. وأعضاء مجتمع الاستقامة هم أهل الله وخلفاؤه في الأرض، تحوطهم العناية الربَّانية في الدنيا والآخرة، وتحفُّ بهم ملائكة الرحمة بالبشائر والاستغفار، والرعاية الكريمة؛ قلوبهم واثقة بالله، مطمئنة به، لا تعرف الخوف إلا منه عزَّ وجل. جاء في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: «قلت يارسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؛ قال: قل آمنت بالله، ثمَّ استقم».
وبمجرَّد أن ينوي المؤمن الاستقامة، ويقرِّر السير عليها بصدق، فإن الله يُسخِّر له ملائكة الرحمة لتلهمه الحقَّ، وترشده إلى طريق الخير والصلاح، ولتكون معه في وحشة القبر تؤنسه، وتزيل عنه الروع من أهوال يوم القيامة، وتدخله معزَّزاً مكرَّماً إلى دار الخلود قائلة له: طبت وطاب محياك وطاب مماتك. قال بعض الصالحين: [إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة، ألا تخافوا من هول الموت ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإن المؤمن ينظر إلى حافظَيه قائمَين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنَّة الَّتي كنت توعد، وإنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها، فلا تهولنَّك فإنما يُراد بها غيرك]. وقيل أيضاً: [البشرى للمؤمنين المستقيمين في ثلاثة مواطن: عند الموت وفي القبر وعند البعث].
ولاشكَّ في أن الصبر على تكاليف الاستقامة أمر عسير، ولذلك يستحقُّ الصابرون عند الله هذا الإنعام الكبير، الَّذي هو صحبة الملائكة وولاؤهم ومودَّتهم، وبشائرهم بالجنَّة الَّتي فيها ما تشتهي أنفسهم وما يدَّعون، والَّتي اختارها تعالى داراً لإقامتهم: {نُزلاً من غفور رحيم} فهي من عند الله أنزلهم فيها بمغفرته ورحمته، فأيُّ نعيم بعد هذا النعيم؟.
لقد استحقَّ المؤمنون هذا التكريم بسبب رفعهم لواء التَّوحيد، لذلك فإن أحسن كلمة تقال في الأرض، هي كلمة التَّوحيد، الَّتي تصعد في مقدِّمة الكلم الطَّيب إلى السَّماء، شريطة أن تقترن بالعمل الصالح الَّذي يصدِّقها، مع الاستسلام لله الَّذي تتوارى معه الذَّات، فتصبح الدعوة خالصة له سبحانه ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
كان الحسن رضي الله عنه إذا تلا هذه الآية {ومن أَحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنَّني من المسلمين}، قال: (هذا الداعي إلى الله، هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحبُّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه).
إذن، فالإسلام يجعل مركز الصدارة للدعاة الَّذين استقاموا على طريق الله عزَّ وجل، فهم أشرف الخلق، وأحبُّ الخلق إلى الله، يدعون الناس إلى الإيمان بأقوالهم وأفعالهم، بل إن أفعالهم لتسبق أقوالهم، فهم منارات للهدى، وبصائر للأفئدة، وهم المسلمون حقاً وصدقاً.
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {من المؤمنينَ رِجَالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليهِ فمنهم من قضى نَحْبَهُ ومنهم من ينتظِرُ وما بدَّلُوا تبديلاً(23) ليجزي الله الصَّادقينَ بصدقِهِم ويُعذِّبَ المنافقينَ إن شاءَ أو يتوبَ عليهِمْ إنَّ الله كان غفوراً رحيماً(24)}
ومضات:
ـ المؤمن الصَّادق هو الَّذي يُكْمِل مسيرة العمل والخدمة والتضحية حتَّى نهايته، دون ملل أو كلل، متحمِّلا ما يعترضه من المتاعب والإيذاء.
ـ المكافأة الَّتي يرجوها الصَّادق من عمله هي رضاء الله عنه، فهي وحدها الَّتي تبلِّغه طموحه وتروي ظمأه. وليست الجنَّة حافزه أو النار مفزعه فقط، لأنَّ صدقه الحقيقي لا ينبع من اهتمامات ماديَّة يطلبها جسده بل من إشراقات روحيَّة ومعنويَّة تستمدُّ زخمها من الصلة بالله عزَّ وجل.
ـ الإيمان والنفاق لا يجتمعان في قلب واحد، ومن تعرَّض قلبه للإصابة بالنفاق أو صفة من صفاته، فأمره متروك إلى الله تعالى إمَّا أن يعذبه، أو يتوب عليه إذا أفاق من سباته قبل فوات الأوان واستدرك ما فاته، فمغفرة الله قائمة ورحمته واسعة وهو أرحم الراحمين.
في رحاب الآيات:
في خضمِّ معترك الحياة وأثناء مواجهة الأحداث أخذت الشخصية المؤمنة تتبلور بشكل جديد، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتَّضح سماتها، وكانت الفئة المؤمنة الَّتي تتكوَّن من مجموع تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوِّماتها الخاصَّة، وقيمها الأصيلة، وطابعها المتميِّز بين سائر الفئات. وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة أحياناً، وتشتدُّ قسوتها فتبلغ درجة الفتنة، لكنَّها فتنة كأنَّها النار الَّتي تصوغ الذهب، فهي تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تبقى خليطاً مجهول القيم.
لقد علِم الله جلَّ وعلا أن هذه الخليقة البشريَّة لا تُصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً حقيقيّاً، ولا تصحُّ ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبيَّة الواقعيَّة، الَّتي تُحفر في القلوب، وتُنقش في الصدور وتأخذ من النفوس، وتعطي في معترك الحياة وملتقى الأحداث. لقد كانت مرحلة عجيبة حقاً تلك الَّتي قضاها المسلمون أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مرحلة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً ظاهراً، مُبَلْوَراً في أحداث وكلمات، فكان كلُّ مؤمن يبيت وهو يشعر أن عين الله ترقبه، وأن سمع الله يناله، وأن كلَّ كلمة منه وكلَّ حركة، بل وكلَّ خاطر قد يصبح مكشوفاً للناس ويتنزَّل في شأنه قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلُّ مؤمن يُحِسُّ الصلة القوية الَّتي تربطه بربِّه، فإذا أصابه أمر أو واجهته معضلة انتظر أن تُفتح أبواب السماء ليتنزَّل منها حلٌّ لمعضلته، أو فتوى في أمره، أو قضاء في شأنه.
والنصُّ القرآني هنا يُغفل أسماء الأشخاص، ليصوِّر نماذج البشر وأنماط الطباع، ويُغفل تفصيلات الحوادث وجزئيَّات الوقائع، ليصوِّر القيم الثابتة والسنن الباقية، الَّتي لا تنتهي بانتهاء الحدث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، بل تبقى قاعدة ومثلاً لكلِّ جيل. فهو يهتمُّ بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويُظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره الحكيم، ويقف عند كلِّ مرحلة من مراحل الدعوة للتوجيه والتعقيب، والربط بالأصل الكبير. فالقرآن الكريم معدٌّ للعمل لا في وسط محدَّد ولا في تاريخ معيَّن، بل هو معدٌّ للعمل دائماً كلَّما واجه المرء مثل هذا الحدث أو شبهه مادامت الحياة، وفي مختلف البيئات، بالقوَّة نفسها الَّتي عمل بها في حياة المجموعة الأولى. والأحداث الَّتي مرَّ بها المسلمون الأوائل طبعتهم بطبائع مختلفة، لكنَّها إيجابية، وأوَّلها وأهمُّها الوفاء بالعهد مع الله. فكان كلُّ من يريد أن يرتقي سُلَّم الإيمان يعاهد الله تعالى عهداً لا ينكث فيه ولا يتراجع عنه، على أن يسخِّر إمكاناته الجسدية والفكرية والروحية جميعها، وكذلك وقته كلَّه للعمل البنَّاء الدائم والمستمر لما فيه سعادة الإنسانية، وبما يُرضي الله تعالى عنه. وقد صدقوا بعهدهم، فمنهم من قضى نحبه أي وفَّى بعهده وهلك في سبيل مبدئه، كأنس بن النضر رضي الله عنه الَّذي عاهد الله على قتال أعداء الحقِّ حتَّى الرمق الأخير في حياته؛ فوفَّى بعهده في معركة أُحد، حيث أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمِّي أنس بن النضر عن بدر، فكبُر عليه، فقال: أوَّل مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبت عنه. لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فقاتل حتَّى قُتل، فَوُجِدَ في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة ورمية). ومنهم من ينتظر اللحظة المناسبة للوفاء بهذا النذر، وما تراجعوا عن عهدهم، ولا غيَّروا اتجاههم، خلافاً للمنافقين الَّذين قالوا لا نولِّي الأدبار فبدَّلوا قولهم، وتراجعوا عن العمل من أجل حماية العقيدة والدعوة إليها، وهذا شأنهم لأنهم كاذبون مع أنفسهم فكانوا كاذبين مع ربِّهم.
والله جلَّ وعلا يختبر عباده ليُميِّز الخبيث من الطيب، ويُظْهِرَ أمر كلٍّ منهما واضحاً، ثمَّ يثيب أهل الصدق منهم بوفائهم فيما عـاهدوا الله عليه، ويعذِّب المنافقين الناقضين لعهدهم، المخالفين لأوامره إذا استمروا على نفاقهم حتَّى يلقَوْه، إلا إذا تابوا وأقلعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال، فإنه يغفر لهم ما أسلفوا من السيئات. فالله من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حثٌّ عليها في كلِّ حين، وبيان نفعها للتائبين.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بعد إذ هَدَيتَنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمَةً إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ(8) ربَّنَا إنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيه إنَّ الله لا يُخلِفُ المِيعَادَ(9)}
ومضات:
ـ ينبغي على المؤمن مهما بلغ من درجات العلم والمعرفة ألا يُفتتن بعلمه وعمله، وأن يُبقي قلبه في حالة اتصال بالله عزَّ وجل وتوكُّل مطلق عليه، ليثبِّته على الصراط المستقيم، فلا يخطئ طريق الحقِّ، لاسيَّما وأنه قد ذاق حلاوة الإيمان بالدِّين القويم، وعرف حكمة الشرع المستقيم. وعليه أن يسأل الله تعالى التَّفَضُّلَ عليه بنعمة الثبات على دينه الحقِّ، لأنه يدرك أنه لا يقدر على شيء إلا بفضل الله ورحمته، وأن قلبه بين أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء.
ـ على المؤمن أن يدرك أنه سائر لا محالة إلى يوم عظيم سيَجمَعُ فيه تعالى الخلائق للحساب، وأن يترجم إدراكه إلى عمل يوافقه، فهذا وعد الله الحقُّ، والله لا يخلف وعده.
في رحاب الآيات:
إن للإيمان حلاوة وعذوبة يعرفها من سلَّم جوارحه ووجدانه لله عزَّ وجل، ورقَّت مشاعره وأحاسيسه حتَّى صارت مرهفة تلتقط كلَّ الإشارات والدلالات الربَّانية. والقلب الَّذي صدق مع الله ومع نفسه ينعم بأمن الله وطمأنينته، لأن أجهزة الإنذار ضدَّ الزيغ أو الخطأ، جاهزة في أعماقه دائماً، لترسل تحذيرها موقظة منبِّهة.
وهذه الآية هي بمثابة صيحة التحذير وجرس التنبيه والإنذار بالخطر، يُقرع في أعماق القلب المؤمن بشكل دائم، لئلا ينسى تربُّص الشيطان للميل به عن طريق الهدى، وإلقائه في مهاوي التهلكة. فالمؤمن حذر يقظ في مراقبة الثغرات الَّتي يمكن أن ينفذ الشيطان إليه من خلالها. ولما كانت استمرارية هذه المراقبة شاقَّة عسيرة عليه، كان لابدَّ له من طلب مدد إلهي يساعده ويُمِدُّه بالقوَّة لِيُثَبِّتَ أقدامه على الصراط المستقيم.
وفي مواجهة خوفه من تسلُّل الشيطان إلى قلبه، وهدمه للصرح الإيماني فيه، يتوجَّه العبد إلى ربِّه بالدعاء خاشعاً متوسِّلاً، أن يثبِّته على دينه، لأن هذا عطاء لا يعدله عطاء، وهو في أمسِّ الحاجة إليه لأنه يدرك حقيقة ضعفه، وكونه عرضة للتقلُّب والنسيان والانحراف، ولأنه لا يملك قلبه، بل هو في يد الله يقلِّبه كيف يشاء، لذلك يدعوه ألا يزيغ قلبه، وأن يسبغ عليه من رحمته وفضله، ويعطيه القوَّة للاستمرار في عملية البناء الأخلاقي والحضاري، وهو يتذكَّر يوم الحساب الَّذي لا ريب فيه، حيث تُعرض عليه صحيفة أعماله، ويُحاسَبُ بدقَّة وتُقام عليه الحُجَّة في كلِّ ذنب قام به.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: يا مُقَلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلت: يارسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، أمَّا تسمعين قوله تعالى: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بعد إذ هديتنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب}» (رواه ابن مردويه). وهذا هو حال الراسخين في الإيمان مع ربِّهم، الإيمان الَّذي يولِّد الطمأنينة المستمدَّة من الصلة بالله والثِّقة بوعده وعهده، والتَّقوى واليقظة ورقَّة الإحساس؛ الَّتي يفرضها على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تنحرف عن سواء السبيل.
سورة الزمر(39)
قال الله تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ ضُرٌّ دعا ربَّهُ مُنيْباً إليه ثمَّ إذا خَوَّلَهُ نِعْمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ وجَعَلَ لله أنداداً ليُضِلَّ عن سبيلهِ قُلْ تمتَّعْ بكفرِكَ قليلاً إنَّك من أصحابِ النَّار(8) أمَّنْ هوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحْذرُ الآخرةَ ويرجوا رحمةَ ربِّهِ قُلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يتذكَّرُ أُولوا الألباب(9)}
ومضات:
ـ هذه صورة معبِّرة عن الإنسان الَّذي تُلِمُّ به مصيبة، أو يقع في ضائقة، فيطلب المساعدة الإلهية بإلحاح، حتَّى إذا تحقَّقت له نسي أو تناسى ما كان به بالأمس وكأنَّ شيئاً لم يكن، فيُعرِض عن الله. وقد يصل به الجحود إلى أكثر من ذلك حتَّى يلتفت عنه، ويَتَّبِع آلهة يبتدعها لنفسه، وأبغض هذه الآلهة المزيَّفة (الهوى). ولكن مهما طال الزمن بهذا الإنسان، وجرت به الريح فإن مصير سفينته إلى براثن الأعاصير والعذاب في الدنيا والآخرة.
ـ كلَّما ازداد عطاء الله للمؤمن الحقيقي، ازداد من ربِّه قرباً وعبادة خشية أن تزِلَّ به قدم غرور أو فتنة.
ـ أبواب العلم كثيرة، وكلها تزوِّد المؤمن بالقوَّة الروحية والإيمان العميق، وجميعها تدلُّ وتشهد على عظمة الله وقدرته. فمن صار له هذا الإحساس والشهود، صار من أولي الألباب أصحاب القلب والعقل المستنير بنور الله سبحانه وتعالى.
في رحاب الآيات:
للإنسان طاقة محدودة على تحمُّل الألم الناجم عن المصائب أو الأمراض الَّتي تصيب جسده، أو الناتج عن النكبات الَّتي يتعرض لها في ماله أو في أهله. وفي الأحوال جميعها فإن هذه الطاقة وشدَّة تحمُّلها تختلف من شخص لآخر. وعندما يزيد الألم تتَّجه قوى المرء الفكرية والروحية تلقائياً إلى حضرة الله تطلب منه العون والمدد، فتكون هذه المحنة امتحاناً، فهو إمَّا أن يتعرَّف الحقيقة فيدرك حاجته الدائمة إلى ربِّه، أو أن يتحوَّل عن خالقه بمجرَّد زوال الألم وكشفه الغمَّة عنه، وكأنَّ هذه العلاقة علاقة آنيَّة مرتبطة بالمصالح المؤقَّتة، والحاجة الطارئة، وبذلك يفشل وتزِلُّ قدمه.
إن صلة المؤمن بخالقه صلة مستقيمة مرتبطة مع أنفاسه ونبضات قلبه، في السرَّاء والضرَّاء، في العُسر واليُسر، صلة تعطيه كوابح تضبط عواطفه، فلا طغيان في حال الفرح، ولا يأس في حال الحزن، بل اتزان وسكينة ورضاً بقدر الله تعالى خيره وشرِّه. وهذه الصلة لا يمكن أن تقوى وتتمتَّن إلا بالكثير من التعبُّد والخشوع والتقرُّب من الله عزَّ وجل، وخاصَّة في جوف الليل حين تهدأ حركة الأحياء، وترتاح الأعصاب، وتحنُّ القلوب، وتنسكب العبرات. فإذا قويت هذه الصلة، تذكًّر المؤمن خالقه في جميع الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدَّة» (رواه الترمذي والحاكم بإسناد صحيح) وقال الحسين رضي الله عنه : (من نسي الحقَّ عند العوافي لم يُجِبِ الله دعاءَه عند المحن والاضطرار).
إن الجحود لا يقف بالضالِّ عند نسيان فضل ربِّه فحسب، بل يمتدُّ به حتَّى يجعل لربِّه أنداداً، إمَّا آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى، وإمَّا رموزاً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعلها في نفسه شريكة مع الله، فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله، ويتعلَّق بأولاده وأهله كما يتعلَّق بالله أو أشدَّ تعلُّقاً، فيطيعهم بمعصية الله ويرضيهم بسخطه، وتكون العاقبة هي الانحراف أكثر فأكثر عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدَّد، وإفراده بالعبادة والتوجُّه والحبِّ هو وحده الطريق إليه، والعقيدة في الله لا تحتمل معه شريكاً في القلب، كائناً من كان، لا مال ولا ولد ولا صديق ولا قريب، فأيُّما مشاركة قامت في القلب من هذا النوع وأمثاله، فهي من قبيل اتخاذ أنداد مع الله، وضلال عن سبيله، تؤول بصاحبها إلى النار بعد قليل من التمتُّع في هذه الأرض. وكلُّ متاع مهما طال قليل، وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عُمِّر، بل إن حياة الجنس البشري كلِّه على الأرض، متاع قليل، إذا قيست بأعمار بقية مخلوقات الله الكونية. روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (ياأيُّها الناس! ألا تستحون؟ إلى متى تؤمِّلون ما لا تبلغون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون؟ إن من كان قبلكم أمَّلوا بعيداً، وبنَوْا مشيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً).
وبعد الانتهاء من عرض الصورة المظلمة، للإنسان اللاهي المنصرف عن ربِّه، تعرض الآية الصورة المشرقة، للإنسان الواعي المتصل بالله اتصالاً سوياً مستقيماً، فهو قانت لربِّه، مطيع له، متوجِّه إليه، ساجد على أعتابه، قائم بين يديه، حَذِرٌ من عقابه، راجٍ لرحمته. وكلمة القانت لله فيها أربعة وجوه: فهو المطيع، وهو الخاشع، وهو القائم، وهو الداعي إلى الله. ومن ذلك كلِّه ندرك أن الصلة القويمة بالله يجب أن تكون في السرَّاء والضرَّاء، وأن الله لا يقبل إلا الإيمان الخالص من كل الشوائب.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {هو الَّذي يُسيِّرُكُم في البرِّ والبحرِ حتَّى إذا كنتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بريحٍ طيِّبَةٍ وفرِحُوا بها جاءتها رِيْحٌ عاصفٌ وجاءهُمُ الموجُ من كلِّ مكان وظنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بهم دَعَوا الله مُخلصينَ له الدِّينَ لَئِنْ أنجيتَنَا من هذه لنكوننَّ من الشَّاكرين(22) فلمَّا أنجاهُمْ إذا هم يَبْغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ ياأيُّها النَّاسُ إنَّما بَغيُكُم على أنفسِكُمْ متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثمَّ إلينا مَرْجِعُكُم فننبِّئُكُمْ بما كنتُمْ تعملون(23)}
ومضات:
ـ لا يمكن لسفينة الحياة أن تمضي في مسيرتها ما لم تعترضها الرياح الهادرة، وتحيط بها الأمواج العاصفة، ومهما كانت مهارة الربَّان وقدراته الفنية، فإن أعاصير القدر أشدُّ هولاً من أن يجتنبها بإمكاناته الفردية، لذا كان لابدَّ له من المساعدة الإلهية تمدُّه بالعون، وتنقذه من براثن الخوف والذعر. وإن كريم الصفات، وجميل الأخلاق، لا ينسى فضل الله حين يأتيه، بل يحمده ويشكره، ويرعى مخلوقاته بالعطف والرعاية. أمَّا لئيم النفس خبيث الصفات، فإنه سرعان ما ينسى فضل الله عليه ومدده في وقت حاجته، فيتابع مسيرة الحياة، بالظلم والبغي والاعتداء على حقوق الناس. وهذا العنت والصلف والتسلُّط سيرتدُّ عليه بالويل والثُّبور، إِنْ عاجلاً أو في يوم تنشر فيه صحائف الأعمال، ويلقى المرء كتاباً لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ويفزع المجرم من سوء عمله، ويتمنَّى لو أنه كان ترابا.
في رحاب الآيات:
صفحة من صفحات الوجود تُنْشَر أمام أنظارنا بكلِّ غناها ورحابتها ونبضاتها الدافقة، بمدِّها وجزرها، تلهب خيال الإنسان، وتذكي نار القلب ليلتمس العون من الخالق العظيم، وتلفت الانتباه إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهم مندفعون وراء تيَّار الحياة الصاخب، لعلَّهم يتوقَّفون قليلاً، يلتقطون أنفاسهم ولو للحظة وهم يقلِّبون كتاب الكون المفتوح، ويقرؤون صفحاته الزاخرة، ويأخذون منه العبرة الَّتي تنفعهم في رحلتهم القصيرة على الأرض.
إنها صورة البحر بسعته ومهابته، بهوله ورعبه، بهدوئه ووداعته، ترسمها لنا ريشة مبدعة لا تستخدم من أدوات الرسم إلا الكلمة المعبِّرة، وما أفقرها من أداة إن لم تكن صادرة عن ذاتٍ قادرة، تُخضع ما في الوجود لسلطانها. وتبدأ الريشة بالرسم فترصد حياة الإنسان الوادعة الهانئة، فتبدو كمراكب في البحر تتهادى بِزَهْوٍ وخُيَلاء، وريح طيبة تحرِّك السفن بوداعة ورفق، وعلى حين غِرَّة تقطِّب السماء جبينها، وتسري رعدة على سطح البحر، وتهبُّ الريح الهوجاء، ويعلو الموج، وتتقلقل السفينة، ويحدق الموت بمن عليها فتراهم يترنَّحون وكأنَّهم سكارى وما هم بسكارى، ولكنَّه الخطب الشديد والغرق الوشيك.
عندها، وبشكل فطري لا إرادي، تتَّجه أنظار القوم نحو السماء، وتَسْبَحُ في عالم الملكوت، ويدركون أن الله وحده هو المنقذ، فتعتريهم رعدة الرجوع إلى الحقِّ، وترتفع الأصوات بالدعاء والاستغاثة، مصطدمة بعويل الريح وعاتي الأمواج، وتتعرَّى فطرتهم ممَّا علاها من ركام البعد، ويخلع القلب حجاب الغفلة، فيتخذ عهداً عند الله أن يثوب إليه ويؤوب، وأن يحوِّل اتجاهه من الضلال إلى الهدى، ومن الغيِّ إلى الرشد. ويأتي الأمر إلى الريح من الله الرحيم بعباده فتهدأ، وإلى البحر فيسكن، ويسكن معه كلُّ شيء بما في ذلك القلوب الَّتي تستردُّ طمأنينتها، وتواصل السفينة رحلتها وكأنَّ شيئاً لم يحدث، حتَّى إذا وصلت إلى شاطئ الأمان، ولامست أقدام الناس الأرض اليابسة، تحرَّك وحش الغفلة والأنانية في أعماقهم، فإذا هم ينسون أو يتناسون ما قطعوه من عهد لله، فيعيثون في الأرض فساداً، ينشرون الجهل والجاهلية، ويحوِّلون فراديس العلم إلى مقابر للعقل والقلب والهداية، ويَلْبِسُون الحقَّ بالباطل ويشوِّهون كلَّ ما هو جميل، ويعتدون على حقوق الله وحقوق العباد، تحقيقاً لمصلحة عابرة لا تلبث أن تزول، ويبقى الظلم منقوشاً في صحائفهم بأحرف سوداء، وسيحصدون سوء ما زرعوا، ويجنون نتائج الخراب الَّذي صنعوه.
وهذه الصورة ليست إلا تلخيصاً لرحلة الإنسان الغافل على الأرض، فتراه يتقلَّب في أحضان النعيم، لاهثاً وراء إرضاء أنانيته، متجاوزاً حقوق غيره، ناسياً الغاية الَّتي خُلق من أجلها، وهي عمارة الكون، وخلافة الله في الأرض، وإقامة ميزان العدل، وإعلاء كلمة الحقِّ، والإقبال على بارئ الخلق، فتراه يظلم ويبطش ويسرف على نفسه، ويعتدي على غيره، حتَّى إذا داهمته مصيبة لَجَّ بالشكوى، وتوجَّه إلى الخالق بالدعاء، وقطع العهود على نفسه ببذل البرِّ والخير والتَّقوى. فإذا كشف الله غُمَّته، رجع إلى أنانيَّته وغطرسته وظلمه، فيكون من الخاسرين الظالمين لأنفسهم، وتكون عاقبته الندم على ما فرَّط في جنب الله عزَّ وجل. وكان الأجدر به أن يغتنم الفرصة الَّتي منحها الله تعالى له ليستيقظ من غفلته، ويعود إلى رشده فيستقيم، ولكنَّها الغفلة تحيق بالقلوب اللاهية، وترمي بظلالها الثقيلة السوداء على العقول والأبصار. والله نسأل أن يحفَّنا باللطف والرحمة، ليثبِّت أقدامنا على صراطه المستقيم، وينوِّر قلوبنا بشرعه القويم، حتَّى نبقى عابدين مخلصين له الدِّين، ولحلاوة محبَّته ذائقين، ولساعات أعمارنا بطاعته مالئين، ولفرص السعادة الحقيقية مغتنمين آمين يا ربَّ العالمين.
الاستقامة والوفاء بعهد الله
سورة فُصِّلَتْ(41)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تَتَنزَّلُ عليهمُ الملائكَةُ ألاَّ تَخَافوا ولا تَحزنوا وأبشِرُوا بالجنَّة الَّتي كُنتم تُوعدون(30) نحن أولياؤُكُم في الحياة الدُّنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتهي أنفُسُكُمْ ولكم فيها ما تَدَّعُون(31) نُزُلاً من غفورٍ رحيم(32) ومن أحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمِلَ صالحاً وقال إنَّني من المسلمين(33)}
سورة الأحقاف(46)
وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13) أولئك أصحابُ الجنَّةِ خالدينَ فيها جَزَاءً بما كانوا يعملون(14)}
سورة الجن(72)
وقال أيضاً: {وأَنْ لوِ استقاموا على الطَّريقَةِ لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً(16)}
ومضات:
ـ الاستقامة تعني الالتزام الكامل بالتوجُّه نحو الله وبالله وفي سبيل الله.
ـ إن من يُخلص العبوديَّة لله تعالى ويسير ضمن تعاليمه، يحصل على الدعم الروحي في رحلته الحياتيَّة، حيث تُظلُّه العناية الربانيَّة، وتُسخَّر له الملائكة لتيسير أموره وحفظه، وكذلك في رحلة الآخرة بدءاً من حفرة القبر، وحتَّى دخول جنان الخلد بإذن الله عزَّ وجل؛ حيث فيها ما تقرُّ به الأعين وتطرب له القلوب.
ـ يتمايز الناس في الدنيا بأنسابهم وأحسابهم وأموالهم، أمَّا عند الله فإن أفضل الناس من حسن كلامه وصلح عمله، وطاب سلوكه وممشاه، وانتسب إلى مدرسة الإسلام بصدق وجدارة.
في رحاب الآيات:
أن يقول المرء (ربِّيَ الله) فهذا سهل على اللسان، ويكاد أهل الأرض يجمعون على ترداد هذا القول، ولكن قليلاً منهم من يشعر بالمسؤوليات والالتزامات الَّتي تترتب على الاعتراف بوجوده تعالى، وبكونه خالقهم ومقدِّر أمورهم، ويدركون أنَّ عليهم أن ينظِّموا برنامـج حياتهم وفق مخططاته عزَّ وجل. وسبيلهم إلى ذلك يتلخَّص في كلمة واحدة حيث يُتْبِعُ أحدهم القول بالعمل؛ إنها الاستقامة.
فالاستقامة هي المسار الصحيح للإنسان في حياته العملية فيما يُرضي الله عنه تعبديّاً، وبما يُسْعِد مجتمعه فكريّاً أو ماديّاً أو جهداً عمليّاً. وأعضاء مجتمع الاستقامة هم أهل الله وخلفاؤه في الأرض، تحوطهم العناية الربَّانية في الدنيا والآخرة، وتحفُّ بهم ملائكة الرحمة بالبشائر والاستغفار، والرعاية الكريمة؛ قلوبهم واثقة بالله، مطمئنة به، لا تعرف الخوف إلا منه عزَّ وجل. جاء في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: «قلت يارسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؛ قال: قل آمنت بالله، ثمَّ استقم».
وبمجرَّد أن ينوي المؤمن الاستقامة، ويقرِّر السير عليها بصدق، فإن الله يُسخِّر له ملائكة الرحمة لتلهمه الحقَّ، وترشده إلى طريق الخير والصلاح، ولتكون معه في وحشة القبر تؤنسه، وتزيل عنه الروع من أهوال يوم القيامة، وتدخله معزَّزاً مكرَّماً إلى دار الخلود قائلة له: طبت وطاب محياك وطاب مماتك. قال بعض الصالحين: [إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة، ألا تخافوا من هول الموت ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإن المؤمن ينظر إلى حافظَيه قائمَين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنَّة الَّتي كنت توعد، وإنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها، فلا تهولنَّك فإنما يُراد بها غيرك]. وقيل أيضاً: [البشرى للمؤمنين المستقيمين في ثلاثة مواطن: عند الموت وفي القبر وعند البعث].
ولاشكَّ في أن الصبر على تكاليف الاستقامة أمر عسير، ولذلك يستحقُّ الصابرون عند الله هذا الإنعام الكبير، الَّذي هو صحبة الملائكة وولاؤهم ومودَّتهم، وبشائرهم بالجنَّة الَّتي فيها ما تشتهي أنفسهم وما يدَّعون، والَّتي اختارها تعالى داراً لإقامتهم: {نُزلاً من غفور رحيم} فهي من عند الله أنزلهم فيها بمغفرته ورحمته، فأيُّ نعيم بعد هذا النعيم؟.
لقد استحقَّ المؤمنون هذا التكريم بسبب رفعهم لواء التَّوحيد، لذلك فإن أحسن كلمة تقال في الأرض، هي كلمة التَّوحيد، الَّتي تصعد في مقدِّمة الكلم الطَّيب إلى السَّماء، شريطة أن تقترن بالعمل الصالح الَّذي يصدِّقها، مع الاستسلام لله الَّذي تتوارى معه الذَّات، فتصبح الدعوة خالصة له سبحانه ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
كان الحسن رضي الله عنه إذا تلا هذه الآية {ومن أَحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنَّني من المسلمين}، قال: (هذا الداعي إلى الله، هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحبُّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه).
إذن، فالإسلام يجعل مركز الصدارة للدعاة الَّذين استقاموا على طريق الله عزَّ وجل، فهم أشرف الخلق، وأحبُّ الخلق إلى الله، يدعون الناس إلى الإيمان بأقوالهم وأفعالهم، بل إن أفعالهم لتسبق أقوالهم، فهم منارات للهدى، وبصائر للأفئدة، وهم المسلمون حقاً وصدقاً.
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {من المؤمنينَ رِجَالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليهِ فمنهم من قضى نَحْبَهُ ومنهم من ينتظِرُ وما بدَّلُوا تبديلاً(23) ليجزي الله الصَّادقينَ بصدقِهِم ويُعذِّبَ المنافقينَ إن شاءَ أو يتوبَ عليهِمْ إنَّ الله كان غفوراً رحيماً(24)}
ومضات:
ـ المؤمن الصَّادق هو الَّذي يُكْمِل مسيرة العمل والخدمة والتضحية حتَّى نهايته، دون ملل أو كلل، متحمِّلا ما يعترضه من المتاعب والإيذاء.
ـ المكافأة الَّتي يرجوها الصَّادق من عمله هي رضاء الله عنه، فهي وحدها الَّتي تبلِّغه طموحه وتروي ظمأه. وليست الجنَّة حافزه أو النار مفزعه فقط، لأنَّ صدقه الحقيقي لا ينبع من اهتمامات ماديَّة يطلبها جسده بل من إشراقات روحيَّة ومعنويَّة تستمدُّ زخمها من الصلة بالله عزَّ وجل.
ـ الإيمان والنفاق لا يجتمعان في قلب واحد، ومن تعرَّض قلبه للإصابة بالنفاق أو صفة من صفاته، فأمره متروك إلى الله تعالى إمَّا أن يعذبه، أو يتوب عليه إذا أفاق من سباته قبل فوات الأوان واستدرك ما فاته، فمغفرة الله قائمة ورحمته واسعة وهو أرحم الراحمين.
في رحاب الآيات:
في خضمِّ معترك الحياة وأثناء مواجهة الأحداث أخذت الشخصية المؤمنة تتبلور بشكل جديد، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتَّضح سماتها، وكانت الفئة المؤمنة الَّتي تتكوَّن من مجموع تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوِّماتها الخاصَّة، وقيمها الأصيلة، وطابعها المتميِّز بين سائر الفئات. وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة أحياناً، وتشتدُّ قسوتها فتبلغ درجة الفتنة، لكنَّها فتنة كأنَّها النار الَّتي تصوغ الذهب، فهي تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تبقى خليطاً مجهول القيم.
لقد علِم الله جلَّ وعلا أن هذه الخليقة البشريَّة لا تُصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً حقيقيّاً، ولا تصحُّ ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبيَّة الواقعيَّة، الَّتي تُحفر في القلوب، وتُنقش في الصدور وتأخذ من النفوس، وتعطي في معترك الحياة وملتقى الأحداث. لقد كانت مرحلة عجيبة حقاً تلك الَّتي قضاها المسلمون أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مرحلة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً ظاهراً، مُبَلْوَراً في أحداث وكلمات، فكان كلُّ مؤمن يبيت وهو يشعر أن عين الله ترقبه، وأن سمع الله يناله، وأن كلَّ كلمة منه وكلَّ حركة، بل وكلَّ خاطر قد يصبح مكشوفاً للناس ويتنزَّل في شأنه قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلُّ مؤمن يُحِسُّ الصلة القوية الَّتي تربطه بربِّه، فإذا أصابه أمر أو واجهته معضلة انتظر أن تُفتح أبواب السماء ليتنزَّل منها حلٌّ لمعضلته، أو فتوى في أمره، أو قضاء في شأنه.
والنصُّ القرآني هنا يُغفل أسماء الأشخاص، ليصوِّر نماذج البشر وأنماط الطباع، ويُغفل تفصيلات الحوادث وجزئيَّات الوقائع، ليصوِّر القيم الثابتة والسنن الباقية، الَّتي لا تنتهي بانتهاء الحدث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، بل تبقى قاعدة ومثلاً لكلِّ جيل. فهو يهتمُّ بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويُظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره الحكيم، ويقف عند كلِّ مرحلة من مراحل الدعوة للتوجيه والتعقيب، والربط بالأصل الكبير. فالقرآن الكريم معدٌّ للعمل لا في وسط محدَّد ولا في تاريخ معيَّن، بل هو معدٌّ للعمل دائماً كلَّما واجه المرء مثل هذا الحدث أو شبهه مادامت الحياة، وفي مختلف البيئات، بالقوَّة نفسها الَّتي عمل بها في حياة المجموعة الأولى. والأحداث الَّتي مرَّ بها المسلمون الأوائل طبعتهم بطبائع مختلفة، لكنَّها إيجابية، وأوَّلها وأهمُّها الوفاء بالعهد مع الله. فكان كلُّ من يريد أن يرتقي سُلَّم الإيمان يعاهد الله تعالى عهداً لا ينكث فيه ولا يتراجع عنه، على أن يسخِّر إمكاناته الجسدية والفكرية والروحية جميعها، وكذلك وقته كلَّه للعمل البنَّاء الدائم والمستمر لما فيه سعادة الإنسانية، وبما يُرضي الله تعالى عنه. وقد صدقوا بعهدهم، فمنهم من قضى نحبه أي وفَّى بعهده وهلك في سبيل مبدئه، كأنس بن النضر رضي الله عنه الَّذي عاهد الله على قتال أعداء الحقِّ حتَّى الرمق الأخير في حياته؛ فوفَّى بعهده في معركة أُحد، حيث أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمِّي أنس بن النضر عن بدر، فكبُر عليه، فقال: أوَّل مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبت عنه. لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فقاتل حتَّى قُتل، فَوُجِدَ في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة ورمية). ومنهم من ينتظر اللحظة المناسبة للوفاء بهذا النذر، وما تراجعوا عن عهدهم، ولا غيَّروا اتجاههم، خلافاً للمنافقين الَّذين قالوا لا نولِّي الأدبار فبدَّلوا قولهم، وتراجعوا عن العمل من أجل حماية العقيدة والدعوة إليها، وهذا شأنهم لأنهم كاذبون مع أنفسهم فكانوا كاذبين مع ربِّهم.
والله جلَّ وعلا يختبر عباده ليُميِّز الخبيث من الطيب، ويُظْهِرَ أمر كلٍّ منهما واضحاً، ثمَّ يثيب أهل الصدق منهم بوفائهم فيما عـاهدوا الله عليه، ويعذِّب المنافقين الناقضين لعهدهم، المخالفين لأوامره إذا استمروا على نفاقهم حتَّى يلقَوْه، إلا إذا تابوا وأقلعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال، فإنه يغفر لهم ما أسلفوا من السيئات. فالله من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حثٌّ عليها في كلِّ حين، وبيان نفعها للتائبين.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بعد إذ هَدَيتَنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمَةً إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ(8) ربَّنَا إنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيه إنَّ الله لا يُخلِفُ المِيعَادَ(9)}
ومضات:
ـ ينبغي على المؤمن مهما بلغ من درجات العلم والمعرفة ألا يُفتتن بعلمه وعمله، وأن يُبقي قلبه في حالة اتصال بالله عزَّ وجل وتوكُّل مطلق عليه، ليثبِّته على الصراط المستقيم، فلا يخطئ طريق الحقِّ، لاسيَّما وأنه قد ذاق حلاوة الإيمان بالدِّين القويم، وعرف حكمة الشرع المستقيم. وعليه أن يسأل الله تعالى التَّفَضُّلَ عليه بنعمة الثبات على دينه الحقِّ، لأنه يدرك أنه لا يقدر على شيء إلا بفضل الله ورحمته، وأن قلبه بين أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء.
ـ على المؤمن أن يدرك أنه سائر لا محالة إلى يوم عظيم سيَجمَعُ فيه تعالى الخلائق للحساب، وأن يترجم إدراكه إلى عمل يوافقه، فهذا وعد الله الحقُّ، والله لا يخلف وعده.
في رحاب الآيات:
إن للإيمان حلاوة وعذوبة يعرفها من سلَّم جوارحه ووجدانه لله عزَّ وجل، ورقَّت مشاعره وأحاسيسه حتَّى صارت مرهفة تلتقط كلَّ الإشارات والدلالات الربَّانية. والقلب الَّذي صدق مع الله ومع نفسه ينعم بأمن الله وطمأنينته، لأن أجهزة الإنذار ضدَّ الزيغ أو الخطأ، جاهزة في أعماقه دائماً، لترسل تحذيرها موقظة منبِّهة.
وهذه الآية هي بمثابة صيحة التحذير وجرس التنبيه والإنذار بالخطر، يُقرع في أعماق القلب المؤمن بشكل دائم، لئلا ينسى تربُّص الشيطان للميل به عن طريق الهدى، وإلقائه في مهاوي التهلكة. فالمؤمن حذر يقظ في مراقبة الثغرات الَّتي يمكن أن ينفذ الشيطان إليه من خلالها. ولما كانت استمرارية هذه المراقبة شاقَّة عسيرة عليه، كان لابدَّ له من طلب مدد إلهي يساعده ويُمِدُّه بالقوَّة لِيُثَبِّتَ أقدامه على الصراط المستقيم.
وفي مواجهة خوفه من تسلُّل الشيطان إلى قلبه، وهدمه للصرح الإيماني فيه، يتوجَّه العبد إلى ربِّه بالدعاء خاشعاً متوسِّلاً، أن يثبِّته على دينه، لأن هذا عطاء لا يعدله عطاء، وهو في أمسِّ الحاجة إليه لأنه يدرك حقيقة ضعفه، وكونه عرضة للتقلُّب والنسيان والانحراف، ولأنه لا يملك قلبه، بل هو في يد الله يقلِّبه كيف يشاء، لذلك يدعوه ألا يزيغ قلبه، وأن يسبغ عليه من رحمته وفضله، ويعطيه القوَّة للاستمرار في عملية البناء الأخلاقي والحضاري، وهو يتذكَّر يوم الحساب الَّذي لا ريب فيه، حيث تُعرض عليه صحيفة أعماله، ويُحاسَبُ بدقَّة وتُقام عليه الحُجَّة في كلِّ ذنب قام به.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: يا مُقَلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلت: يارسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، أمَّا تسمعين قوله تعالى: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بعد إذ هديتنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب}» (رواه ابن مردويه). وهذا هو حال الراسخين في الإيمان مع ربِّهم، الإيمان الَّذي يولِّد الطمأنينة المستمدَّة من الصلة بالله والثِّقة بوعده وعهده، والتَّقوى واليقظة ورقَّة الإحساس؛ الَّتي يفرضها على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تنحرف عن سواء السبيل.
سورة الزمر(39)
قال الله تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ ضُرٌّ دعا ربَّهُ مُنيْباً إليه ثمَّ إذا خَوَّلَهُ نِعْمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ وجَعَلَ لله أنداداً ليُضِلَّ عن سبيلهِ قُلْ تمتَّعْ بكفرِكَ قليلاً إنَّك من أصحابِ النَّار(8) أمَّنْ هوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحْذرُ الآخرةَ ويرجوا رحمةَ ربِّهِ قُلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يتذكَّرُ أُولوا الألباب(9)}
ومضات:
ـ هذه صورة معبِّرة عن الإنسان الَّذي تُلِمُّ به مصيبة، أو يقع في ضائقة، فيطلب المساعدة الإلهية بإلحاح، حتَّى إذا تحقَّقت له نسي أو تناسى ما كان به بالأمس وكأنَّ شيئاً لم يكن، فيُعرِض عن الله. وقد يصل به الجحود إلى أكثر من ذلك حتَّى يلتفت عنه، ويَتَّبِع آلهة يبتدعها لنفسه، وأبغض هذه الآلهة المزيَّفة (الهوى). ولكن مهما طال الزمن بهذا الإنسان، وجرت به الريح فإن مصير سفينته إلى براثن الأعاصير والعذاب في الدنيا والآخرة.
ـ كلَّما ازداد عطاء الله للمؤمن الحقيقي، ازداد من ربِّه قرباً وعبادة خشية أن تزِلَّ به قدم غرور أو فتنة.
ـ أبواب العلم كثيرة، وكلها تزوِّد المؤمن بالقوَّة الروحية والإيمان العميق، وجميعها تدلُّ وتشهد على عظمة الله وقدرته. فمن صار له هذا الإحساس والشهود، صار من أولي الألباب أصحاب القلب والعقل المستنير بنور الله سبحانه وتعالى.
في رحاب الآيات:
للإنسان طاقة محدودة على تحمُّل الألم الناجم عن المصائب أو الأمراض الَّتي تصيب جسده، أو الناتج عن النكبات الَّتي يتعرض لها في ماله أو في أهله. وفي الأحوال جميعها فإن هذه الطاقة وشدَّة تحمُّلها تختلف من شخص لآخر. وعندما يزيد الألم تتَّجه قوى المرء الفكرية والروحية تلقائياً إلى حضرة الله تطلب منه العون والمدد، فتكون هذه المحنة امتحاناً، فهو إمَّا أن يتعرَّف الحقيقة فيدرك حاجته الدائمة إلى ربِّه، أو أن يتحوَّل عن خالقه بمجرَّد زوال الألم وكشفه الغمَّة عنه، وكأنَّ هذه العلاقة علاقة آنيَّة مرتبطة بالمصالح المؤقَّتة، والحاجة الطارئة، وبذلك يفشل وتزِلُّ قدمه.
إن صلة المؤمن بخالقه صلة مستقيمة مرتبطة مع أنفاسه ونبضات قلبه، في السرَّاء والضرَّاء، في العُسر واليُسر، صلة تعطيه كوابح تضبط عواطفه، فلا طغيان في حال الفرح، ولا يأس في حال الحزن، بل اتزان وسكينة ورضاً بقدر الله تعالى خيره وشرِّه. وهذه الصلة لا يمكن أن تقوى وتتمتَّن إلا بالكثير من التعبُّد والخشوع والتقرُّب من الله عزَّ وجل، وخاصَّة في جوف الليل حين تهدأ حركة الأحياء، وترتاح الأعصاب، وتحنُّ القلوب، وتنسكب العبرات. فإذا قويت هذه الصلة، تذكًّر المؤمن خالقه في جميع الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدَّة» (رواه الترمذي والحاكم بإسناد صحيح) وقال الحسين رضي الله عنه : (من نسي الحقَّ عند العوافي لم يُجِبِ الله دعاءَه عند المحن والاضطرار).
إن الجحود لا يقف بالضالِّ عند نسيان فضل ربِّه فحسب، بل يمتدُّ به حتَّى يجعل لربِّه أنداداً، إمَّا آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى، وإمَّا رموزاً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعلها في نفسه شريكة مع الله، فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله، ويتعلَّق بأولاده وأهله كما يتعلَّق بالله أو أشدَّ تعلُّقاً، فيطيعهم بمعصية الله ويرضيهم بسخطه، وتكون العاقبة هي الانحراف أكثر فأكثر عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدَّد، وإفراده بالعبادة والتوجُّه والحبِّ هو وحده الطريق إليه، والعقيدة في الله لا تحتمل معه شريكاً في القلب، كائناً من كان، لا مال ولا ولد ولا صديق ولا قريب، فأيُّما مشاركة قامت في القلب من هذا النوع وأمثاله، فهي من قبيل اتخاذ أنداد مع الله، وضلال عن سبيله، تؤول بصاحبها إلى النار بعد قليل من التمتُّع في هذه الأرض. وكلُّ متاع مهما طال قليل، وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عُمِّر، بل إن حياة الجنس البشري كلِّه على الأرض، متاع قليل، إذا قيست بأعمار بقية مخلوقات الله الكونية. روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (ياأيُّها الناس! ألا تستحون؟ إلى متى تؤمِّلون ما لا تبلغون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون؟ إن من كان قبلكم أمَّلوا بعيداً، وبنَوْا مشيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً).
وبعد الانتهاء من عرض الصورة المظلمة، للإنسان اللاهي المنصرف عن ربِّه، تعرض الآية الصورة المشرقة، للإنسان الواعي المتصل بالله اتصالاً سوياً مستقيماً، فهو قانت لربِّه، مطيع له، متوجِّه إليه، ساجد على أعتابه، قائم بين يديه، حَذِرٌ من عقابه، راجٍ لرحمته. وكلمة القانت لله فيها أربعة وجوه: فهو المطيع، وهو الخاشع، وهو القائم، وهو الداعي إلى الله. ومن ذلك كلِّه ندرك أن الصلة القويمة بالله يجب أن تكون في السرَّاء والضرَّاء، وأن الله لا يقبل إلا الإيمان الخالص من كل الشوائب.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {هو الَّذي يُسيِّرُكُم في البرِّ والبحرِ حتَّى إذا كنتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بريحٍ طيِّبَةٍ وفرِحُوا بها جاءتها رِيْحٌ عاصفٌ وجاءهُمُ الموجُ من كلِّ مكان وظنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بهم دَعَوا الله مُخلصينَ له الدِّينَ لَئِنْ أنجيتَنَا من هذه لنكوننَّ من الشَّاكرين(22) فلمَّا أنجاهُمْ إذا هم يَبْغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ ياأيُّها النَّاسُ إنَّما بَغيُكُم على أنفسِكُمْ متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثمَّ إلينا مَرْجِعُكُم فننبِّئُكُمْ بما كنتُمْ تعملون(23)}
ومضات:
ـ لا يمكن لسفينة الحياة أن تمضي في مسيرتها ما لم تعترضها الرياح الهادرة، وتحيط بها الأمواج العاصفة، ومهما كانت مهارة الربَّان وقدراته الفنية، فإن أعاصير القدر أشدُّ هولاً من أن يجتنبها بإمكاناته الفردية، لذا كان لابدَّ له من المساعدة الإلهية تمدُّه بالعون، وتنقذه من براثن الخوف والذعر. وإن كريم الصفات، وجميل الأخلاق، لا ينسى فضل الله حين يأتيه، بل يحمده ويشكره، ويرعى مخلوقاته بالعطف والرعاية. أمَّا لئيم النفس خبيث الصفات، فإنه سرعان ما ينسى فضل الله عليه ومدده في وقت حاجته، فيتابع مسيرة الحياة، بالظلم والبغي والاعتداء على حقوق الناس. وهذا العنت والصلف والتسلُّط سيرتدُّ عليه بالويل والثُّبور، إِنْ عاجلاً أو في يوم تنشر فيه صحائف الأعمال، ويلقى المرء كتاباً لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ويفزع المجرم من سوء عمله، ويتمنَّى لو أنه كان ترابا.
في رحاب الآيات:
صفحة من صفحات الوجود تُنْشَر أمام أنظارنا بكلِّ غناها ورحابتها ونبضاتها الدافقة، بمدِّها وجزرها، تلهب خيال الإنسان، وتذكي نار القلب ليلتمس العون من الخالق العظيم، وتلفت الانتباه إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهم مندفعون وراء تيَّار الحياة الصاخب، لعلَّهم يتوقَّفون قليلاً، يلتقطون أنفاسهم ولو للحظة وهم يقلِّبون كتاب الكون المفتوح، ويقرؤون صفحاته الزاخرة، ويأخذون منه العبرة الَّتي تنفعهم في رحلتهم القصيرة على الأرض.
إنها صورة البحر بسعته ومهابته، بهوله ورعبه، بهدوئه ووداعته، ترسمها لنا ريشة مبدعة لا تستخدم من أدوات الرسم إلا الكلمة المعبِّرة، وما أفقرها من أداة إن لم تكن صادرة عن ذاتٍ قادرة، تُخضع ما في الوجود لسلطانها. وتبدأ الريشة بالرسم فترصد حياة الإنسان الوادعة الهانئة، فتبدو كمراكب في البحر تتهادى بِزَهْوٍ وخُيَلاء، وريح طيبة تحرِّك السفن بوداعة ورفق، وعلى حين غِرَّة تقطِّب السماء جبينها، وتسري رعدة على سطح البحر، وتهبُّ الريح الهوجاء، ويعلو الموج، وتتقلقل السفينة، ويحدق الموت بمن عليها فتراهم يترنَّحون وكأنَّهم سكارى وما هم بسكارى، ولكنَّه الخطب الشديد والغرق الوشيك.
عندها، وبشكل فطري لا إرادي، تتَّجه أنظار القوم نحو السماء، وتَسْبَحُ في عالم الملكوت، ويدركون أن الله وحده هو المنقذ، فتعتريهم رعدة الرجوع إلى الحقِّ، وترتفع الأصوات بالدعاء والاستغاثة، مصطدمة بعويل الريح وعاتي الأمواج، وتتعرَّى فطرتهم ممَّا علاها من ركام البعد، ويخلع القلب حجاب الغفلة، فيتخذ عهداً عند الله أن يثوب إليه ويؤوب، وأن يحوِّل اتجاهه من الضلال إلى الهدى، ومن الغيِّ إلى الرشد. ويأتي الأمر إلى الريح من الله الرحيم بعباده فتهدأ، وإلى البحر فيسكن، ويسكن معه كلُّ شيء بما في ذلك القلوب الَّتي تستردُّ طمأنينتها، وتواصل السفينة رحلتها وكأنَّ شيئاً لم يحدث، حتَّى إذا وصلت إلى شاطئ الأمان، ولامست أقدام الناس الأرض اليابسة، تحرَّك وحش الغفلة والأنانية في أعماقهم، فإذا هم ينسون أو يتناسون ما قطعوه من عهد لله، فيعيثون في الأرض فساداً، ينشرون الجهل والجاهلية، ويحوِّلون فراديس العلم إلى مقابر للعقل والقلب والهداية، ويَلْبِسُون الحقَّ بالباطل ويشوِّهون كلَّ ما هو جميل، ويعتدون على حقوق الله وحقوق العباد، تحقيقاً لمصلحة عابرة لا تلبث أن تزول، ويبقى الظلم منقوشاً في صحائفهم بأحرف سوداء، وسيحصدون سوء ما زرعوا، ويجنون نتائج الخراب الَّذي صنعوه.
وهذه الصورة ليست إلا تلخيصاً لرحلة الإنسان الغافل على الأرض، فتراه يتقلَّب في أحضان النعيم، لاهثاً وراء إرضاء أنانيته، متجاوزاً حقوق غيره، ناسياً الغاية الَّتي خُلق من أجلها، وهي عمارة الكون، وخلافة الله في الأرض، وإقامة ميزان العدل، وإعلاء كلمة الحقِّ، والإقبال على بارئ الخلق، فتراه يظلم ويبطش ويسرف على نفسه، ويعتدي على غيره، حتَّى إذا داهمته مصيبة لَجَّ بالشكوى، وتوجَّه إلى الخالق بالدعاء، وقطع العهود على نفسه ببذل البرِّ والخير والتَّقوى. فإذا كشف الله غُمَّته، رجع إلى أنانيَّته وغطرسته وظلمه، فيكون من الخاسرين الظالمين لأنفسهم، وتكون عاقبته الندم على ما فرَّط في جنب الله عزَّ وجل. وكان الأجدر به أن يغتنم الفرصة الَّتي منحها الله تعالى له ليستيقظ من غفلته، ويعود إلى رشده فيستقيم، ولكنَّها الغفلة تحيق بالقلوب اللاهية، وترمي بظلالها الثقيلة السوداء على العقول والأبصار. والله نسأل أن يحفَّنا باللطف والرحمة، ليثبِّت أقدامنا على صراطه المستقيم، وينوِّر قلوبنا بشرعه القويم، حتَّى نبقى عابدين مخلصين له الدِّين، ولحلاوة محبَّته ذائقين، ولساعات أعمارنا بطاعته مالئين، ولفرص السعادة الحقيقية مغتنمين آمين يا ربَّ العالمين.